مقالات __ كتاب __ صوت جرش
في ظل ما يعصف ببلدي الأردن من محن وفتن، مع كل مواقفه الإنسانية المشرفة النابعة من عقيدته الإسلامية وانتمائه لعروبته ودفاعه عن قضايا الأمة بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، وهذه المواقف ليست كلاما يقال بل هي مواقف تتجلى على الأرض فهي مواقف بينة واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء لا ينكر رؤيتها إلا أعمى البصر والبصيرة أو جاهل معاند للحق.
خلال لقاء جلالة الملك عبدالله بن الحسين الأخير مع الرئيس الأمريكي ترامب وبكلام واضح أكد جلالته على رفض تهجير الفلسطينيين وخاصة أهل غزة من أرضهم، وبحنكته السياسية المعهودة ودبلوماسيته العالية أكد على أن هذا هو الموقف الأردني والعربي متكلما بلسان الأردنيين والعرب والمسلمين جميعا بأن هذا الموقف العربي من قضية التهجير.
خطرت على ذهني قصة سيدنا الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه عندما وَجَّهَ سيدنا عُمَر بن الخطاب جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، فَأَسَرُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَأُعْطِيَكَ نِصْفَ مُلْكِي؟ قَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ، وَجَمِيعَ مَا تَمْلِكُ، وَجَمِيعَ مُلْكِ الْعَرَبِ، مَا رَجَعْتُ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قَالَ: إِذًا أَقْتُلَكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرُّمَاة: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ بَدَنِهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَيَأْبَى، فَأَنْزَلَهُ. وَدَعَا بِقِدْرٍ، فَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ، وَدَعَا بِأَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا، فَأُلْقِي فِيهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى. ثُمَّ بَكَى، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: إِنَّهُ بَكَى، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ جَزِعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ. مَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى السَّاعَةَ فَتَذْهَبُ، فَكُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ شَعْرِي أَنْفُسٌ تُلْقَى فِي النَّارِ فِي اللَّه .
فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي وَأُخَلِّيَ عَنْكَ؟ .
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ :وَعَنْ جَمِيعِ الْأَسَارَى؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ .
وَقَدِمَ بِالْأَسَارَى عَلَى عُمَرَ ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ ابْنِ حُذَافَةَ ، وَأَنَا أَبْدَأُ ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ.
قد يظن القاريء أنني أبالغ في التشبيه، ولكن المواقف تتشابه في حقيقتها فسيدنا عبد الله وقف أمام حاكم طاغيةٍ أهوج لا حكمة عنده ويتكلم بعنجهيته ويساومه على عقيدته ودينه ومبادئه الثابتة، ويغريه بالأموال ويهدده بالحرق والدمار من أجل التنازل عن عقيدته وثوابته، وسيدنا عبد الله مع ذلك يبقى ثابتاً على موقفه وهو القائد المحنك محتسباً ذلك في سبيل الله تعالى، وكان صابراً محتسباً، فلما وصل الأمر بالتهديد بقتل الأسرى المؤمنين كلهم، أو أن يقبل رأس ذلك الكافر مقابل أن يطلق سراحه وافق على أن يقبل رأسه بشرط أن يطلق جميع الأسرى.
وعندما عاد سيدنا عبدالله الى وطنه لم يجد أمامه آلة إعلامية إجرامية تتهمه بالتخلي عن عقيدته وقضايا أمته وتسعى للفتنة في بلده بل وجد شعبا فطنا ذكيا استلهم الحكمة من قيادته ويحب قائده ويثق به، فقال له سيدنا عمر مقالته المشهورة: "حقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ ابْنِ حُذَافَةَ ، وَأَنَا أَبْدَأُ ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ".
هناك قضايا لا تقبل المساومة أبدا، وعندما تشعر أنك وحدك في الميدان وأنه بأي لحظة سيتخلى الجميع عنك تعلم أيضا أنه ليست كل الحلول في المواجهة والمقاومة الحربية.
عندما يتعلق الأرض بدينك وعقيدتك وأمتك ووطنك ومقدساتك، عندما يتعلق الأمر بحفظ الأديان والأوطان والإنسان معاً لا بد من الحكمة والمهارة العالية عند المنعطفات الخطرة وإدارة الأزمات، وهذا أمر لا يتقنه أي أحد، فالقائد العبقري هو الذي يحقق أهدافه دون التنازل عن الثوابت، ودون أن يلقي نفسه بالمهالك.
عاد جلالة الملك عبدالله الثاني من عند الرئيس الأمريكي ترامب الذي أخذ يساوم الأردن على تهجير أهل غزة منها مقابل المساعدات الأمريكية للأردن ظانّاً أن الأردن سيقبل بالتنازل عن ذرة من تراب فلسطين مقابل ملك ترامب كاملاً، فأثبت ملكنا بحنكته العالية لهذا الرئيس المتعجرف رغم تهديداته أن الأردن لا يقبل المساومة في قضايا الأمة، وأن قضية فلسطين خاصة ليست محلاً للمساومة، فموقف الأردن تجاه قضية فلسطين ثابت لم ولن يتغير.
عاد جلالة الملك بعد أن وقف لوحده ثابتا على مبادئه متفوقا بقوته وهمته وذكائه أمام رئيس متفاخر لا يؤمن إلا بقوة الذراع والآلة، عاد جلالته وقد انتصرت قوة الحق وفطنة الملك وإرادة الشعب على قوى الشر وخبثة الباطل ومخططات الأعداء، عاد وقد تفوق جلالته عليه بما وهبه الله من حدة ذكاء وقوة فطنة وبديهة عالية، وقد وضع جميع الدول العربية في الواجهة ليتحملوا مسؤوليتهم تجاه القضية الفلسطينية حتى لا يقف وحيدا أمام تهديدات ترامب، عاد الملك وقد حدد أهدافه بوضوح أنه لا حل للقضية الفلسطينية على حساب الأردن وأن مصلحة الأردن فوق كل اعتبار، عاد الملك وقد أعاد الأمل لألفي طفل فلسطيني حالتهم حرجة من أجل العلاج في مستشفيات بلادنا ليعودوا بعد رحلة العلاج لإعمار أرضهم في غزة.
عاد جلالته ثابتا على موقفه محققا مآربه شامخا شموخ الجبال الراسيات وقد تصدى لعناد ترامب وتغطرسه دون أن ينحني له ويقبل رأسه.
فالتضحيات والتنازلات لا بد لها من ثمن، فإذا كانت المساعدات التي تقدم للأردن على حساب التنازل على القضية الفلسطينية فالأردن مستغنِ عن هذه المساعدات فتراب الوطن لا يقدر بثمن، بل نفديه بالأرواح والمهج، وبهمة أبنائه وتكاتفهم سيبقى الأردن ثابتا شامخاً عزيزاً.
وللأسف عاد جلالة الملك إلى الوطن ولكن لا كما عاد سيدنا عبدالله بن حذافة السهمي، عاد وقد وجد آلة الإعلام(الإجرام) هذه القناة التي تتغذى بكسبها على الفتن وعلى الدماء التي تراق دون أن يرف لها جفن وتبث الفتنة بين الشعب وقائدهم ظانين أنهم بأبواقهم وأموالهم وبتحريفهم لكلام جلالة الملك سيتفوقون على ثقة الشعب بقائدهم ومليكهم الحكيم، وأنهم سيجدون من الشعب الأردني لغمة سائغة يعتاشون عليها من خلال بثهم للفتن بين الأردنيين؛ فبفضل الله تعالى أولاً ثم بحب الأردنيين لمليكهم ووعيهم العالي وذكائهم وثقتهم بقائدهم وبحب الملك لشعبه ووطنه خابوا وخابت مساعيهم.
فالأردن وملكه ذلك القائد الحكيم المحنك الذي تمكن على مدى عقود من الحفاظ على أرض وطنه وشعبه وتمسكه بالقضية الفلسطينية وانتصاره لقضايا الأمة العربية في ظل المحن وأمواج عالية من الفتن ورياح عاصفة من المكر به ليل نهار، قادر على تجاوز هذه المحن والفتن كما تجاوز غيرها.
فالله سبحانه وتعالى لن يخزي ملكاً حكيماً رحيماً جعل وطنه ملاذاً لكل منكوب ومستضعف، والله سبحانه لن يخزيَ وطناً كريماً بشعبه متمسكاً بعقيدته وهويته وأرضه منتمياً لدينه ووطنه ولقيادته الهاشمية وقضايا أمته، هذا الشعب المضياف الشهم الذي ما زال يقتسم مع إخوانه من فلسطين ومن كل مكان رغيف الخبز وشربة الماء ويعيش همومهم ومعاناتهم ويغيث ملهوفهم ويداوي جرحاهم من منطلق أخوة الدين والدم.
فسيبقى وطننا بحماته الهاشميين وشعبه الطيبين الأردن للأردنيين وطناً حراً منيعاً، ومضيافا للنازلين، وغوثاً للسائلين، ملجأً للمستضعفين، ودرعاً حصينا ً ضد المفسدين والعابثين، ومدافعاً عن قضايا الأمة والدين.
وما قام به سعادة رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي جزاه الله خيرا من دعوة الشعب لاستقبال جلالة الملك المعظم هو موقف مشرف يشعرك بمدى التفاف الشعب والمؤسسات حول مليكهم وحبهم له، فهم كالأسرة الواحدة، فموقف جلالة الملك يشرف كل عربي ومسلم فحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وعربي أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ الملك