فرانسيسكا موسى
في زاويةٍ مظلمةٍ من الحياة، حيث تختفي أبسط اللذّات وتتحوّل النعم إلى عبء، يقف مريض السيلياك محاصرًا بين أشهى النكهات وأقسى القيود. لا يقتصر هذا المرض على تحدّي الجسد فقط، بل يمتد ليغزو الروح ويُثقل النفس. فمريض السيلياك لا يعاني فقط من اضطراب هضمي، بل من معركة نفسية مستمرة، تقوده إلى البحث عن حلولٍ وسط تتراوح ما بين القيود الغذائية، التي تضعها عليه الحياة، والرغبة في الاستمتاع بما كان يعتبره من أبسط ملذات الحياة: الطعام. فالسيلياك ليس مجرد مرض، بل هو حالة من التفكك المستمر بين الفرد وجسده، بين الحاضر وآماله في حياة خالية من القلق الغذائي.
عندما يبدأ هذا المرض بالظهور تكون العلامات غير واضحة، وأحيانًا يتم تجاهلها. تبدأ الأمور بأعراض بسيطة مثل التقيّؤ اليومي، الإرهاق، والتعب الذي لا ينتهي، إلى جانب عدم التركيز، الشعور الدائم بالنعاس، وفقدان الوزن بشكل غير مبرر. لم يكن ذلك شيئًا بسيطًا. كان كل شيء يبدو وكأنّني أعيش في جسد غريب عني؛ جسد خذلني ولم يكن قادرًا على أن يعتني بي بالطريقة التي اعتدت عليها. لكن الأعراض مع مرور الوقت أصبحت أسوأ بشكل تدريجي. فقدان الوزن أصبح واضحًا، ومعه بدأت تظهر علامات نقص الفيتامينات، مثل تكسّر الأظافر وتساقط الشعر. كنت أعيش في دوامة من الأسئلة والقلق، ولا أستطيع معرفة ما يحدث لي. كلما أمسكت برغيف خبز، كانت يداي تحمرّان وتظهر حبوب صغيرة على كفّي. شعرت أنني أعيش في متاهة: جسد يرفض التعاون مع الحياة، وأعراض لا أستطيع تفسيرها. وعندما قمت بزيارة الأطباء، كان الجواب هو نفسه: وصف الأدوية لتقوية المناعة وبعض الفيتامينات، لكن لا شيء كان يعمل بشكل ملموس. ومع مرور الوقت، بدأت أكتشف ما يعانيه جسدي، واكتشفت أنني مصابة بمرض السيلياك. هذا الاكتشاف كان بمثابة كشفٍ لحقيقة مريرة، ولم يكن مجرد اضطراب هضمي، بل هو مرض مزمن يغير نمط حياتك بالكامل. أصبح الطعام بالنسبة لي شيئًا لا يمكن الوثوق به، بل حتى أكثر الأطعمة أمانًا قد تتحول إلى أعداء مجهولين بسبب ذرة صغيرة من الجلوتين. السيلياك ليس مجرد تحدٍ جسدي، بل هو مرض يُرهق الروح قبل الجسد. يتحوّل الطعام من متعة إلى عبء، ومن حاجة إلى خوف. كل لقمة تصبح مرهقة، وكل وجبة تكون اختبارًا حقيقيًا لا يحتمل الخطأ. ومع مرور الوقت، أصبح الطعام في حياتي ليس مجرد وجبة، بل لحظة قلق دائمة، ومزيجاً من الأمل في الأمان والخوف من الخطر. فلا يمكنني تناول الطعام ببساطة مثل الآخرين، بل يجب أن أكون دائمًا في حالة استعداد لفحص المكونات في كل طعام أتناوله. أما في المطاعم أو خلال الزيارات الاجتماعية، فأنا أعيش في حالة من التوتر المستمر بسبب الأسئلة التي أطرحها للتأكد من سلامة طعامي. في هذه اللحظات، أشعر وكأنني عبء على من حولي. ومع تزايد هذه المواقف، تبدأ العزلة الاجتماعية بالتسلل إلى حياتي.
إن هذه العزلة ليست فقط بسبب القيود الغذائية، بل تمتد لتشمل حياتي الاجتماعية، إذ يفضل البعض تجنب التجمعات التي تركز على الطعام، لاعتقادهم بأن ذلك قد يسبب لي إحراجًا أو يجعلني أشعر بالاختلاف. أصبحت المشاركة في الوجبات العائلية أو الاحتفالات الاجتماعية صراعًا بين رغبتك في الانخراط والمشاركة وبين خوفك من المخاطرة بمضاعفات صحية قد تؤدي إلى أيام من الألم. هذا الأمر يخلق دائرة مغلقة من العزلة النفسية، حيث تجد نفسك بين الرغبة في أن تكون جزءًا من الآخرين وبين الخوف من أن تصبح عبئًا على من حولك، كما أن عليك أن تبرّر باستمرار متطلباتك الغذائية، مما يجعل المواقف الاجتماعية أكثر تعقيدًا. هذه الضغوط النفسية قد تؤدّي إلى مشاعر القلق والاكتئاب؛ فكلّ ما يعتبره الآخرون أمرًا بديهيًا، مثل اختيار الطعام من دون تفكير أو التمتع بمناسبة اجتماعية، يصبح بالنسبة إليّ تحديًا مستمرًا. يشعر مريض السيلياك بأنه عالق في معركة غير مرئية، فلا يمكنه أن يشارك بسلام في لحظات الفرح التي يمر بها الآخرون. لكن على الرغم من كل ذلك، فإنه مع تزايد الوعي حول مرض السيلياك وانتشار البدائل الغذائية المناسبة، بدأ الأمل بالتسلل إلى حياتي. أصبح من الممكن، رغم القيود، التكيف مع الوضع بشكل أفضل.
السيلياك هو اختبار لجسد الإنسان، ولكنه أكثر من ذلك. إنه اختبار للروح. هذا المرض علمني أن القوة لا تكمن في تجنب الألم، بل في مواجهته والبحث عن حلول حتى في أصعب الأوقات. الآن أرى في مرضي فرصة للنمو الشخصي والوعي. لم يعد الطعام مجرد احتياج جسدي بالنسبة إليّ، بل أصبح وسيلة للتفاعل مع العالم بطريقة جديدة. ورغم ما أواجهه من تحديات، فإنني أعلم أن قوتي تكمن في قدرتي على التكيف مع الظروف القاسية. السيلياك علّمني كيف أواجه الألم وأحول المعاناة إلى فرصة للنمو، وكيف أبحث عن الحلول حتى في أحلك اللحظات. هذه التجربة جعلتني أقدر نعمة الصحة، وأدركت أن القوة تكمن في استمراري في الحياة رغم القيود التي فرضها عليّ المرض.