رشا الدبيسي - مستشارة في الفعاليات الثقافية
في بلدٍ صغيرٍ كلبنان، حيثُ يزاحم الجبلُ البحر، وحيثُ تصطدمُ الأزمنةُ في شوارعِ بيروت، تبدو الهويةُ الوطنيةُ كأغنيةٍ غير مكتملة، مقاطعها مبعثرةٌ بين المآذنِ والأجراس، وبين الأزقةِ التي تعرفُ وجوهًا أكثرَ مما تعرفُ أسماءَ شوارعها. هذا الكيان الذي يعيشُ على تخومِ الهوياتِ المتشابكة، حيثُ لا يكفي أن تكونَ مواطناً، بل عليك أن تكونَ ابنَ طائفةٍ، أو حفيدَ حربٍ لم تخترْها، أو وريثَ ذاكرةٍ تفرضُ عليكَ ولاءاتها قبل أن تُتيحَ لكَ حريةَ السؤال.
نشأة الهوية اللبنانية وتأثير العوامل السياسية والدينية:
لبنانُ كيانٌ لم يُصنعَ دفعةً واحدة، بل صُنِعَ على مراحل، كفسيفساءَ جمعت حجارتها من فينيقيا إلى السلطنة العثمانية، ومن الانتداب الفرنسي إلى الجمهورية. لم يكن هناك يوماً تعريفٌ جامعٌ للوطن، بل تنافسٌ على معناه. منذ البداية، لم يكن الاستقلالُ ولادةً طبيعيةً بقدرِ ما كان تسويةً بين مراكز القوى، حيثُ كلُّ طائفةٍ اعتقدتْ أنها الأصلُ، وأن الآخرين ضيوفٌ على خريطتها.
أما النظام الطائفي، فلم يكن وليدَ صدفة، بل عقداً اجتماعيًا كُتِبَ بحبرِ الاستعمار وقّعت عليه النخبُ السياسية التي وجدت فيه ضمانةً لاستمرارِ نفوذها، حيثُ تحوّلَ الوطنُ إلى مائدةٍ تُوزَّعُ عليها الحصص، لا ساحةً للمشاركةِ والاندماج.
كيف عزّز النظام الطائفي الانقسامات بدلًا من الوحدة؟
في لبنان، الطائفية ليست مجرد نظامٍ إداري، بل متاهةٌ ندورُ فيها منذ ما قبل الاستقلال. إنها الحكايةُ التي تُعادُ صياغتها في كلِّ أزمة. اقتصادياً، بات لبنانُ بلدَ "الاقتصادِ الوهمي"، حيثُ تتحكمُ المصارفُ بمصيرِ الناس الذين يعيشون مغامراتِ وأوهامِ الاستقرارِ الذي لا يأتي. اجتماعياً، تحولت الطائفيةُ إلى هندسةٍ غير مرئيةٍ تقسمُ الناس إلى زوايا معزولة، كلٌّ يخشى الآخر، وكلٌّ يختار أي طريق يسلك ومن أي مكان يتسوق وأي محطة تلفزيونية يشاهد ... الخ
الهوية الوطنية لبناء وطن:
في كتابه "الجماعات المتخيلة"، يوضح "بنديكت أندرسون" أن الهويةَ الوطنية ليست شعوراً وجدانياً فحسب، إنما نظامٌ اجتماعيٌ يُبنى على مؤسساتٍ تتيحُ للأفرادِ الشعورَ بأنهم جزءٌ من كُلٍّ أكبر.
كما تشير الدراسات المقارنة إلى أن الدولَ التي استطاعت بناءَ هويةٍ وطنيةٍ متماسكةٍ حققت تنميةً اقتصاديةً وسياسيةً أكبر. فالهوية الوطنية تتجلى قوتها في ثلاثة ركائز صلبة اللغة والتراث والثقافة. وهذا ما درسناه عن لبنان منذ الطفولة. فلو وقفنا للحظة وفكرنا في هذه الثروة وكيف يمكن توظيفها في بناء دولة؟
وحدها الثقافةُ تنجو من المستنقعِ الطائفي، وحدها قادرةٌ على إعادةِ تعريفِ الانتماء، على تحويلِ الهويةِ إلى لقاءٍ لا إلى متراس. من فيروز التي تسكنُ قلوبَ الجميع، إلى جبران خليل جبران الذي جعلَ من لبنانَ فكرةً لا تنتمي إلى أحد، تبقى الفنونُ الميدانَ الوحيدَ الذي لم تستطع الطوائفُ تقسيمَه.
ولترسيخ هذه الثقاقة وتعزيز الهوية الوطنية لا بدّ أن نبدأ بإصلاح النظام التعليمي، حدثونا في المناهج عن لغتنا، عن نقوشنا، عن هويتها المعمارية والقرميد وقناطر الشويري، عن الدبكة والموروث الثقافي، عن جمال التلوين الطائفي وترسيخ العادات والتقاليد. لندعم الفنون والمبادرات الثقافية ونُكثر من بناء البيوت الثقافية، والمسارح والمشاريع البيئية والسياحية.
لنعد هيكلة النظام السياسي والإداري ونتبنَّ سياساتٍ إعلامية تعزز الهوية المشتركة ونطلق مشاريع وطنية جامعة. وأخيراً والأهم لنصلح الخطاب الديني عبر توحيدِ خطابِ ديني وطني وتشجيعِ القيمِ التي تعزّزُ الانتماءَ للوطنِ قبلَ الطائفة.
الهويةُ موجةٌ تتشكلُ مع الزمن، تحملُ معها ذاكرةَ الماضي، لكنها لا تغرقُ فيه. لبنانُ ليس ماضيه فقط، بل احتمالاتُ مستقبله، والنجاةُ في الثقافة ثم الثقافة ثم الثقافة.