اقترح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي في خطّته المعروفة بـ"خطة النصر" "اتّفاقاً خاصّاً" مع شركاء بلاده يسمح بـ"الحماية المشتركة والاستغلال الإستراتيجيّ المشترك لمواردها"
.لم يعد مستغرباً ما يصدر عن سيّد البيت الأبيض دونالد ترامب. في أقلّ من شهر على تولّيه رسمياً منصب رئاسة الولايات المتحدة مجدّداً، يبدو أنّ ترامب تحضّر جيّداً بعد ولاية أولى تجريبية، إذا صحّ التعبير، فجعل ملفّاته أشبه بالمفرقعات النارية ليلة رأس السنة، تضيء سماء العالم، لا واشنطن فقط!
آخر الجولات كان لقاء "رجل السلام" ترامب بالصديق "بيبي" رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، إذ فجّر ترامب قنبلة من العيار الثقيل أضاءت سماء إسرائيل ونزلت ألسنة من نار على المناطق الفلسطينية والدول العربية والغربية: الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة وتمتلكه وما من خيار أمام سكّانه إلّا المغادرة!
على مقلب آخر من الكرة الأرضية، الحرب الروسية الأوكرانية. وهناك أيضاً يبرز "جنون ترامبي"!
في تصريح جريء، أعلن الرئيس الأميركي أنّه يريد التفاوض على اتّفاق مع أوكرانيا قائلاً: "نتطلّع للتوصّل إلى اتّفاق مع الأوكرانيين بحيث يضعون ما لديهم من معادن نادرة وأشياء أخرى كضمان مقابل ما نقدّمه لهم".
فماذا يريد ترامب من الأراضي الأوكرانية؟ وهل الصفقة التي يطمح إليها ستغيّر موقفه الرافض إرسال المزيد من الأسلحة إلى كييف لمواجهة الغزو الروسي؟
ماذا يُخبّئ تراب أوكرانيا؟
تسعى كييف بكلّ الطرق والوسائل للمحافظة على الدعم الغربي والأميركي خاصّة مع دخول حربها العام الثالث في مواجهة الزحف الروسي، وقد أتى اقتراح ترامب "المساعدات مقابل المعادن النادرة"، فرصة ثمينة لن تفوّتها. فماذا نعرف عن كنوز أوكرانيا؟
تمتلك أوكرانيا 5% من إجمالي الموارد المعدنية على مستوى العالم، وتقدّر قيمة احتياطاتها من المعادن النادرة والليثيوم بما يتراوح بين 3 تريليونات و11.5 تريليون دولار، بحسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي.
وأفاد تقرير لمركز الناتو للتميّز في أمن الطاقة بأنّ أراضي أوكرانيا تضمّ نحو 20 ألف "مستودع طبعي" تحتوي على 116 نوعاً من المعادن، كان يجري استغلال 15% منها فقط قبل الحرب.
تمتلك كييف أكبر احتياطيات التيتانيوم في أوروبا بنسبة 7% من الاحتياطيات العالمية، وتعدّ من الدول القليلة المتخصّصة في تعدين خامات هذه المادة المستخدمة في قطاعات حيوية كالفضاء والطب والسيارات والصناعات البحرية. وقد كانت حتّى شباط/فبراير 2022، مورداً رئيسياً للتيتانيوم في القطاع العسكري.
إلى ذلك، تحجز أوكرانيا لنفسها مكانة مميّزة في قطاع إنتاج الليثيوم، وهو العنصر الأساسي في صناعة البطاريات والسيراميك والزجاج، إذ تمتلك واحداً من أكبر الاحتياطيات في أوروبا بنحو 500 ألف طن. وتحتّل المرتبة الخامسة عالمياً في إنتاج الغاليوم المستخدم في أشباه الموصلات والصمّامات الثنائية الباعثة للضوء، وكانت مصدراً رئيسياً لغاز النيون عالي النقاء والمستعمل في صناعة الرقائق الإلكترونية.
وهي تضم أيضاً الفحم، الغاز الطبيعي، الملح والنفط. بالإضافة إلى كل هذا، تتوفّر في أوكرانيا رواسب مؤكّدة من معادن أخرى مثل الزركونيوم والأباتيت المستعملين في التطبيقات النووية والطبية، والبريليوم المستخدم في صناعات الطاقة النووية والفضاء والصناعات العسكرية والإلكترونية، واليورانيوم للقطاعين النووي والعسكري.
لدى أوكرانيا احتياطيات ضخمة عالية الجودة من خام الحديد والمنغنيز الضروريين لإنتاج الصلب الأخضر، وقد وفّرت عام 2021 نحو 43% من واردات الاتحاد الأوروبي من ألواح الصلب.
وتشمل ثروات أوكرانيا المعدنية احتياطيات كبيرة من المعادن غير الحديدية في أوروبا من حيث حجم الرواسب: الرابعة في النحاس، الخامسة في الرصاص، السادسة في الزنك والتاسعة في الفضّة. كذلك، تتوفّر رواسب النيكل والكوبالت في منطقتي كيروفوهراد ودنيبروبتروفسك، وتشكّل احتياطيات الغرافيت في البلاد 20% من الموارد العالمية.
تصنّف أوكرانيا ضمن أكبر 10 منتجين عالمياً لعدد من المعادن مثل البروم والمغنيسيوم المعدني والمنغنيز والخث وحديد الزهر والكاولين.
خطّة أوكرانيا وموقفها
اقترح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينيسكي في خطّته المعروفة بـ"خطة النصر" "اتّفاقاً خاصّاً" مع شركاء بلاده يسمح بـ"الحماية المشتركة والاستغلال الإستراتيجي المشترك لمواردها".
ولعلّ كييف فهمت عقل ترامب الجانح للصفقات، فهي أرجأت توقيع اتّفاقية تعاون في مجال المعادن مع إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن!
في كل الأحوال، إن أوكرانيا لا ترفض الصفقة طالما تُبعد عنها "الكأس الروسي المرّ"، وهذا ما جاء على لسان رئيسها بعد تصريح نظيره الأميركي إذ كشف عن أنّ فريقاً تواصل مع الموفد الأميركي لأوكرانيا وروسيا كيث كيلوغ ومستشار الأمن القومي مايكل والتس، وقال: "هناك مواعيد عمل لزيارة مقرّرة لوفد أميركي إلى أوكرانيا".
وأكّد زيلينسكي أيضاً أن أوكرانيا منفتحة على الاستثمار من جانب الشركات الأميركية، وقال: "نحن منفتحون على إمكانية تطوير هذا الأمر مع شركائنا الذين يساعدوننا في حماية أراضينا. إنّه اتّفاق منصف".
في السياق، لفت أحد المقرّبين من زيلينسكي لصحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن "تصريحات ترامب تبدو متوافقة مع خطّة النصر التي قُدّمت له في الخريف"، مضيفاً أن "أوكرانيا عرضت على ترامب شروطاً خاصة للتعاون في الموارد الرئيسية، مؤكّدة ضرورة حمايتها من روسيا وإيران".
ووفق صحيفة "نيويورك تايمز"، التقى وفد من الحكومة الأوكرانية في كانون الأول/ديسمبر مع رجال أعمال أميركيين في واشنطن، إذ قدّم صفقات تجارية محتملة شملت الحصول على تراخيص إنتاج للمعادن الحيوية، إمّا بشكل مباشر أو من خلال شراكات مع حاملي التراخيص الحاليين.
ما بين روسيا والصين... وإيران وكوريا الشمالية!
في تقييم عام 2024، قدّرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن هناك 110 ملايين طن من الرواسب في جميع أنحاء العالم بما في ذلك 44 مليون طن في الصين- أكبر منتج في العالم بفارق كبير، وفق ما ذكرت صحيفة "الغارديان". ويُقدّر أن هناك 22 مليون طن أخرى في البرازيل، 21 مليون طن في فيتنام بينما تمتلك روسيا 10 ملايين طن والهند سبعة ملايين طن.
أمام هذه الأرقام، تعرقل أمور عدّة صفقة ترامب. فكميّة لا بأس بها من معادن أوكرانيا تقع في مناطق تحت السيطرة الروسي أو يهدّدها تقدّم جيشها. وفي هذا السياق، قال زيلينسكي: "إذا كانت هذه المعادن تحت سيطرة روسيا فيمكن لدول مثل إيران وكوريا الشمالية الوصول إليها".
إلى ذلك، يرى محلّلون أن استخراج هذه المعادن النادرة مكلف جدّاً.
ومنذ اندلاع الحرب، تحدّثت تقارير عدّة عن أن الدوافع الروسية تتجاوز الأبعاد السياسية والأمنية المعلنة لتشمل السيطرة على الموارد المعدنية الاستراتيجية في أوكرانيا. وأشارت إلى أن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 منح موسكو سيطرة على احتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي، تقدّر بنحو 13 تريليون متر مكعّب.
وقد نقلت "فايننشال تايمز" عن الرئيس السابق للوكالة الحكومية الأوكرانية للترميم وتطوير البنية التحتية مصطفى نعيم قوله إن "السيطرة على الموارد المعدنية أصبحت جزءاً من الحرب"، مضيفاً أن "البلاد لا تناضل من أجل أراضيها فحسب بل أيضاً من أجل الحق في إدارة ثرواتها الاستراتيجية التي يمكن أن تكون عاملاً حاسماً في تعافيها".
في سياق متّصل، تبدو أن صفقة ترامب أبعد من أوكرانيا ومساعدتها، فهو يصوّب سهامه على التنين الصيني، إذ تسيطر الصين على ما بين 85 و90% من عمليات استخراج هذه المعادن وتكريرها و92% من صناعة المغناطيسات المشتقّة منها، وفقاً لتقرير صادر شركة "Goldman Sachs Research" عام 2023.
استفادت الصين من احتياطياتها النادرة من خلال الاستثمار في عمليات التكرير وقدّمت براءات اختراع في مجال إنتاج التربة النادرة، ما خلق عقبة أمام الشركات في البلدان الأخرى. وتحصل الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على معظم إمداداتهما من الصين لكنّهما يحاولان تعزيز إنتاجهما وإعادة تدوير ما يستخدمانه بشكل أفضل لتقليل الاعتماد على بكين.
فأمام كل هذا المشهد، بين رجل الصفقات والحاجة الأوكرانية وحرب الأقطاب، من يصمد ومن ينتصر؟