الاب ايلي قنبر
1."كلُّ شيءٍ يجوزُ لي"!
"كلُّ شيءٍ يجوز لي": جملة قد يتلفَّظ بها أيّ إنسان، ولا سيَّما حين يعترضه أحد أو يمنعه عن شيءٍ ما. وقد يقولها آخَر من باب الكلام على حرِّيَّته في التفكير والتقرير والعمل.
أنا إنسانٌ حُرٌّ، أتحمّل مسؤوليّة ما أُفكّر به أو أقوله أو أفعله. الحرِّيَّة بُوصَلتي. الحرِّيَّة مسؤوليّة، لأنّها تجعلني أُميِّز لِأَعرف ماذا أختار وكيف. هل أُنشِد طريق الحياة أو التهلكة، أن أكون في النور أو أن أسلك في الظلام ... من هنا فهمي أن "ليس كلُّ شيءٍ ينفع" أو " وَلَكِن لا يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيء" أو "ليس كلُّ شيءْ يبني". ما ينفعني إيّاه أختار، وما يدَعني طليقًا لا سلطة لأحدٍ أو لشيءٍ عليّ هو ما يؤكِّد سيادتي. ولقد عبَّر بولس الطرسُوسيّ عنه بكلامٍ قويّ، قال:"أَمّا ٱلجَسَدُ فَلَيسَ لِلزِّنى بَل لِلرَّبِّ، وَٱلرَّبُّ لِلجَسَد". لأن بالزنى "يُجرِمُ (الانسان) إِلى جَسَدِهِ"، إلى نفسه وإلى الشريك(ة).
هل يفقَه الجميع هذا المعنى للحرِّيَّة؟ وهل يسيرون بمُوجبه؟
يشهد بولس الطرسوسيّ أنّ "لستُ أفعل الصالح الذي أُريده، بل الشرّ الذي لستُ أُريده فإيّاه أفعل"(رومة 7: 19). هذا ما يقوم به أفرادٌ أو مجموعات يتحكّمون بالعالم بجميع مفاصله وينحرون البشريّة كرمَى للإلَه-المال والسلطة.
2. الابنُ الضالّ
في روايته للإنجيل، يُتحِفنا لوقا البشير بثلاثة أمثال أحدُها مثَل الابن الشاطِر أو الضالّ الذي أوضح فيه يسوع الناصريّ كيف يتعامل الآب مع الناس وتحديدًا مع اللّواتي والذين يمكن أن يفقدوا البوصلة في مسيرتهم اليوميّة. هنا نتذكّر كلام يسوع الجليّ في هذا المجال :"قيل لكم، أمّا أنا فأقول". لسنا بعدُ تحت الناموس أو الشريعة المُوسَويّة أو الاتّجاه الضيِّق في الفكر والمُمارَسة، بل نحن في زمن تجلّى فيه تبنّي الله للإنسان فكرًا وقَولًا وفِعلًا. نحن في زمن الذي قال:"لا أَدعوكم بعدُ عيبدًا، بل أحبّة وأصدقاء"(يوحنّا 15: 15). نحن في زمن الذي "تأنَّس، لأجلنا ولأجل خلاصنا" من عبَثيّة و عدَميّة تأليه المال ...
في مثَل الابن الضالّ نجِد أنّ الابن الأكبر لم يُسَرّ برجوع أخيه من الضياع والموت والعدَم -تمامًا كما يحصل معنا حين يُخطؿ الأخ(ت)- بل "غضِب ولم يُرِد أن يدخل" إلى البيت الأبَويّ "ليَفرح" مع الفرِحين بعَودة الذي شطَر يومًا "وَبَذَّرَ ما لَهُ هُناكَ (في بلدٍ بعيد) عائِشًا في ٱلخَلاعَة". لم يفرَح الابن الأكبر لأنّ شقيقه عاد وسيُقاسمه ما تبقّى من الميراث بعد أن شطرَ وأخذ "نَصيبه مِنَ ٱلمال". ما هذه القَحَة والمُماحكة: "كَم لي مِنَ ٱلسِّنينَ أَخدُمُكَ(يا أبي) وَلَم أَتَعدَّ وَصِيَّتَكَ قَطّ! وَأَنتَ لَم تُعطِني قَطُّ جَديًا لِأَفرَحَ مَعَ أَصدِقائي"، لا بل ذهب ابعد في عجرفته: "لَمّا جاءَ ٱبنُكَ هَذا ٱلَّذي أَكَلَ أَموالَكَ مَعَ ٱلزَّواني، ذَبَحتَ لَهُ ٱلعِجلَ ٱلمُسَمَّن".
هنا نعود إلى الناموس والحرِّيَّة، إلى ذهنيّتَي المُوميائيّة والتحجُّر وتلك التي يتجدَّد بها الذهن أو الميتانُويا ( من اليونانيّة: "الميتا" أي التغيير والـ"نُوس" اي الذِهن).
ذهنيّة المُحنَّطين أي الفرِّيسيِّين والكتبَة الذين يلتزمون بالشريعة بينما الجُباة والخطأة (الأخ الأصغر في المثَل) يُُخالِفونها ويصنّفوا كأعداء تجب مُحاربتهم إلى النهاية. تتَّصف أخلاقيّات الفرِّيسيِّين والكتَبة بالصرامة والتزمُّت. هُم بلا تعاطُف وبلا رحمة وبلا رجاء (1يو 3: 20). إنّهم بلا حياة روحيّة داخليّة، يتعلَّقون بالحرف القاتل. وبالتالي يكونون قضاة ظالمين، معروفين بِتشويه صورة الآخَر، جُبناء، ماكرين.
أمّا جماعة الميتانُويا، فيُمثِّلهم الأب المُحِبّ والرحوم (في المثَل)، المستعدّ لِبذل ذاته حتّى الموت، الموت على الصليب، رحمةً وغفرانًا. هو مُعطي الحياة والمُطلِق إلى الوجود نرّة تِلوض المرّة من خلال حركة العناق ("وَفيما هُوَ بَعيدٌ رَآهُ أَبوهُ فَتَحَرَّكَت أَحشاؤُهُ، وَأَسرَعَ وَأَلقى بِنَفسِهِ عَلى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ") والفرَح بالابن ("هاتوا ٱلحُلَّةَ ٱلأولى وَأَلبِسوهُ، وَٱجعَلوا خاتَمًا في يَدِهِ وَحِذاءً في رِجلَيهِ، وَأتوا بِٱلعِجلِ ٱلمُسَمَّنِ وَٱذبَحوهُ، فَنَأكُلَ وَنَفرَح ") الذي عاد إلى الحياة من العدَم: "فلنفرح، لأنّ ابني هذا كان ميِّتًا فعاش" ...
الميتاونُويا طريقة حياة لكلّ يوم وليس لفترة الصَوم فقط. تغييرُ الذِهن واسلوب الحياة في الوقت المُناسِب قيمةٌ فُضلى إذا اعتمدناها نبلغ إلى "مِلءَ قامة (الحقّ)". ماذا ؟