مقالات __ كتاب __ صوت جرش
لا يمكن النظر إلى زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني الأخيرة إلى الولايات المتحدة إلا كحدث تاريخي يعكس الدور المحوري الذي يلعبه الأردن على الساحتين الإقليمية والدولية. هذه الزيارة لم تكن مجرد لقاءات دبلوماسية، بل كانت رسالة قوية للعالم أجمع. رسالة تؤكد أن الأردن، تحت قيادة جلالة الملك ذي رؤية وموقف ثابت، لا سيما في ظل الحرب على غزة وما رافقها من انتهاكات جسيمة. ومن هذا المنطلق، قاد جهودًا دبلوماسية مكثفة لترسيخ الإلتزام العالمي للعدالة الدولية إلى جانب تقديم الإغاثة الإنسانية والدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة الكاملة وتأكيد أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد للسلام.
خلال أزمة غزة، تصدّر الملك عبد الله الثاني الجهود الدبلوماسية الدولية، معتمداً نهجاً استراتيجياً واقعياً لدفع المجتمع الدولي نحو وقف إطلاق النار والعمل على حل جذري ينهي الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية. وقد تبنّى موقفاً ثابتاً لا يقبل المساومة، حيث رفض بشكل قاطع أي خطط إسرائيلية ترمي إلى احتلال أجزاء من غزة أو فرض مناطق أمنية داخل القطاع، مؤكداً أن هذه السياسات تُجهض فرص السلام العادل.
تجسد هذا الموقف في خطوات عملية مدفوعة بحس عالي من المسؤولية الأخلاقية إتجاه أهل غزة ووقف ما يُمارس من إنتهاكات بحق الوجود الإنساني، حيث قاد الأردن جهوداً مستمرة في تقديم المساعدات الإنسانية، من تشغيل المستشفيات الميدانية إلى تأمين الإمدادات الغذائية ونقل المصابين للعلاج في المستشفيات الأردنية. بالإضافة إلى ذلك، قاد الأردن العالم في توفير الإمدادات والاحتياجات الأساسية لقطاع غزة، ما يعكس التزامه المستمر بدعم الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من إنتهاكات حقوقية جائرة. هذا الإلتزام الراسخ يعكس مكانة الأردن كرافعة سياسية رشيدة في المنطقة، مجدداً التأكيد على أن تحقيق حقوق الفلسطينيين في الحرية وإقامة دولتهم المستقلة هو الأساس الحقيقي للسلام العادل والدائم.
لطالما كان الملك عبد الله الثاني رائداً في الدبلوماسية الذكية، حريصاً على أن يُسمع الصوت العربي بوضوح واحترام في المحافل الدولية. فقد عمل على ترسيخ مكانة الأردن كلاعب رئيسي في رسم ملامح الخطاب العالمي بشأن قضايا المنطقة، مقدماً الطرح العربي بمصداقية وواقعية، وبعيداً عن المزايدات السياسية أو الخطابات الشعبوية.
إن قدرة الملك على دمج القضايا الإقليمية في سياق دولي مترابط جعلت من الأردن مدافعاً قوياً عن الحلول السياسية القائمة على العدالة والحقوق المُستحقة، مما يضمن أن يُنظر إلى القضية الفلسطينية والتحديات الإقليمية الأخرى من منظور المسؤولية الإنسانية والحقوقية والأخلاقية، وليس من خلال أجندات ضيقة أو انقسامات سياسية وبموقف ثابت ضد الاستقطاب والانقسام السياسي.
من السمات البارزة في نهج الملك عبد الله الثاني السياسي رفضه القاطع للاستقطاب والتشرذم، مستلهماً في ذلك نهج والده الراحل الملك الحسين بن طلال -طيب الله ثراه-. فالأردن، بقيادة جلالته، لم يكن يوماً تابعاً للتيارات السياسية المتقلبة، بل حافظ على خطابه المتوازن، معتمداً على الدبلوماسية التفاوضية الذكية والحوار البنّاء والسعي نحو حلول عملية، حتى في مواجهة أعتى التحديات.
وقد تجلّى هذا النهج في تعاطي الأردن مع أزمة غزة، حيث لم يقتصر دور الملك عبد الله الثاني على الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، بل حرص على إبقاء القرار السياسي العربي في أيدي الدول العربية نفسها. فقد شدّد جلالته، خلال لقائه الأخير مع الرئيس الأمريكي، على أن أي حل سياسي يجب أن ينبع من المنطقة نفسها، تأكيداً لمبدأ سيادة الدول العربية على قراراتها الجيوسياسية، ورفضاً لأي محاولات لفرض حلول خارجية لا تعكس إرادة الشعوب ومصالحها الحقيقية، أو تتجاهل رغبة الشعب الغزي في البقاء على أرضه والتمسك بحقوقه المشروعة.
في اجتماعاته الأخيرة، بما في ذلك لقاؤه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أعاد الملك عبد الله الثاني التأكيد على ثوابت الأردن حيال القضايا المصيرية. فقد شدّد على الرفض القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين قسرياً، مؤكداً أن الفلسطينيين لهم الحق في البقاء على أرضهم. كما أكد أن أي جهود لإعادة إعمار غزة يجب أن تكون بقيادة عربية، بما يحفظ السيادة والكرامة الفلسطينية.
إلى جانب تكريس الأردن لدوره التاريخي كملاذ إنساني، أكد الملك عبد الله الثاني أن الأولوية ستظل دائماً للحفاظ على مصالح الشعب الأردني. ففي حين يواصل الأردن التزامه بمسؤولياته الإنسانية، فإنه يرفض بشكل قاطع أي حلول تأتي على حساب أمنه الديموغرافي واستقراره السياسي. هذا الموقف يعكس تمسك الأردن بسيادته الوطنية ونهجه في القيادة الحكيمة، القائم على التوازن بين الريادة الإنسانية والحكم الرشيد والدبلوماسية المسؤولة.
يجسّد نهج الملك عبد الله الثاني نموذجاً للسياسات الذي يدمج بين الأبعاد الدولية والإقليمية (الغلوكال) glocal، حيث يوازن بمهارة بين الانخراط العالمي والأولويات الوطنية. فمن خلال توجيهاته، أصبحت الدبلوماسية الأردنية أداة فاعلة في تحقيق الاستقرار، دون التفريط بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الموقف الأردني من قضايا السيادة والحقوق المشروعة.
يبرز الأردن كدولة رائدة في الدفاع عن حق الشعوب في سيادتها على أراضيها وحقها غير القابل للتفاوض في العدالة والحرية، باعتبارها حقوقًا وجودية لا يمكن المساس بها. يؤكد الأردن أن استقرار المنطقة لا يتحقق إلا من خلال احترام السيادة الوطنية واعتماد الحوار الشامل والمفتوح بين جميع الأطراف. انطلاقًا من هذا المبدأ، يظل الأردن في طليعة الدول التي تقود المبادرات القوية التي تهدف إلى إيجاد حلول عقلانية ومستدامة للأزمات الإقليمية، بينما يظل متمسكًا بمبادئ العدالة والإنصاف كأساس لا يمكن التخلي عنه لتحقيق أي تقدم حقيقي نحو السلام.