حين تدير عددا يصل إلى مليونين وربع مليون شخص، من مشارب مختلفة، وبيئات متنوعة، بإمكانات قليلة، وفي غياب الحاضنات المساندة، عليك أن تتوقع كل شيء.
مناسبة هذا الكلام الهجوم الحاد على المدارس الحكومية في الأردن، بعد سلسلة حوادث وقعت خلال الفترة الأخيرة، وإذا سألت تربويا مختصا لشرح لك بالتفصيل أسباب ما وصل إليه التعليم في الأردن، لأن القصة أعقد بكثير من إطلاق السهام على ظهر وزارة التربية والتعليم، وهذا أمر سهل جدا، وأقل النقد كلفة على الناقد.

يحدثني مدير إحدى المدارس في عمان أنه من أصل 1200 طالب لا يأتي سوى أب واحد أو آباء عدة للسؤال عن أولادهم في المدرسة، بل إن عمليات استدعاء الآباء لاعتبارات تخص الأبناء باتت تفشل، وهذا يعني أن جانبا كبيرا من مسؤولية خراب الأبناء في المدارس، وحالة الإهمال والتنمر والعنف، تعود إلى البيوت، وهي البيوت التي نرى أبناءها، طوال الصيف والشتاء، في الشوارع، بذريعة اللعب.

تحميل العائلات المسؤولية عن تصرفات الأبناء ليس عدلا، لأن هناك مسؤولية على التربية والتعليم، لكن الوزارة كجهاز إداري، مثقلة بالهموم، رواتب المعلمين منخفضة، الإمكانات المالية شحيحة، القدرة على التطوير تصطدم بالبيروقراطية، وقضايا أخرى، وهذا جهاز مثقل على كل مستوياته، من المدرسة التي بحاجة إلى تغيير وصولا إلى المعلم الذي بحاجة إلى تأهيل كاف، وهذا يعني أن ما رأيناه في المدارس مؤخرا نتيجة طبيعية لغياب أغلب الأهل عن تعليم أبنائهم، ثم الوضع الذي تعانيه الوزارة حالها حال بقية الوزارات في الأردن، خصوصا تلك الخدمية.

تصرفات الطلبة من التنمر والاعتداء والتورط في الجرائم، كحادثة حرق الطفل، وغيرها من الحوادث، مدانة بشدة، ولا أحد يبررها، لكن بالله عليكم بماذا تختلف الحادثة عن كل الحوادث الصادمة التي نراها يوميا في الأردن، من جرائم وقتل واعتداءات وإطلاق نيران، فالطلبة هنا عينة من مجتمع تم حقن وريده العام بدم جديد من الغضب والعنف والاستهتار وغياب القانون وعدم الخوف، وزادت وسائل التواصل الاجتماعي، في عملية الحقن، وتم سلب الوعي العام، وربما كلمة تقولها لسائق في شوارع عمان لا تعجبه تؤدي إلى إطلاق النار عليك، وهذا يعني أننا أمام أزمة أخلاقية ممتدة من البيوت إلى المدارس وصولا إلى الشارع، وما وراءه.

هذه ليست مطالعة دفاع عن الوزارة أو الوزير أو طواقم الوزارة، لكنها دعوة لتشخيص الأزمة بشكل عاقل، من دون أجندات تقوم على تصفية الحسابات ضد أحد لصالح أحد، ويكفي أن أشير مجددا إلى أن أكثر من مليونين وربع مليون طالب يتوزعون على آلاف المدارس، ليس عددا سهلا، حيث يتعرض التعليم أيضا إلى طعنات بسبب وجود مؤثرات خارج المدرسة تجعل أغلب هذه الأجيال غير مهتمة بمستقبلها، وتعتقد أنه لا شيء مهم، وتشربت جرأة تصل إلى اعتداء الطالب على الطالب، واعتداء الطالب على المدرس، في نموذج مصغر لكل ما يجري في البلد.

إذا تحدث المعلم مع الطالب بنبرة حادة جلب له كل أفراد عائلته ليؤدبه، والعائلة حين تعتدي على المعلم، تقول لابنها إن اعتداءك على طالب ثان أمر مباح أيضا.

الحد الفاصل بين الأجندة الموجهة في النقد، والنقد الإيجابي، حد دقيق جدا، لأن النقد في المحصلة يجب أن يقرأ كل تفاصيل المشهد حول جهاز حكومي مثقل ولا يساعده أحد، وهذه الأثقال موروثة، وبدأت بالتراكم تحديدا منذ العام 1990، وزادت حدتها هذه الأيام، في ظل نقص المال، ونقص الإمكانات، وعدم وجود شراكة أصلا من جانب الأهل الذين يريدون كل شيء من التربية والتعليم، وليس عند أغلبهم الاستعداد لزيارة المدرسة ليوم واحد في السنة، بذريعة الانشغال في العمل.

الحوادث التي شهدناها في التربية والتعليم تعبر عن أزمة مجتمع، وليست أزمة وزارة، وهي الأزمة ذاتها التي نراها في وزارات ثانية، حتى لا نترك أصل الأزمة وننشغل بالتفاصيل والمظاهر، ونكون لحظتها مثل الذي تغافل عن الجمل وأمسك بذيله، صارخا بأعلى صوته أن الحقيقة تكمن لديه فقط، وهو ذاته موقن أنه غير صادق، ويحرف الحقيقة عن مسارها، متجنبا التشخيص الدقيق لكل الأزمة.

كل مرة نقرأ أزماتنا مثل الذي يقرأ اللغة العربية من اليسار إلى اليمين.