عزز هذه المعلومات ما أعلنته وزارة الخارجية الروسية قبل ساعات من وصول بن فرحان إلى دمشق، ومفاده أن القواعد العسكرية الروسية في سوريا قد يصبح لها دور إضافي كمراكز إنسانية.
مرّ يوم الجمعة على السوريين طويلاً وحافلاً. ترافقت فيه الآلام والآمال، والأحلام والأوهام. لكنه مضى كغيره من الأيام ليكتشف السوريون للمرة الألف أهمية المثل الذي يتجاهلونه مرة بعد مرة "ما حكّ جلدك مثل ظفرك".
كانت البداية مع تصاعد أحداث ريف حمص الغربي التي جعلت السوريين يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن تتحقق "نبوءة حمص" المرعبة، فتنزلق أقدامهم إلى الفتنة الطائفية. وقد ترافق تصاعد عمليات الحملة الأمنية في المنطقة لليوم الثالث على التوالي مع سيل من الأخبار والمعلومات التي احتلت مواقع التواصل الاجتماعي، في غياب وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، بالإضافة إلى انقطاع الاتصالات والإنترنت في الليلة السابقة عن عموم الأراضي السورية، ما رفع منسوب الخوف مما يجري التحضير له.
وعلى الرغم من قساوة ما حصل ودموية بعض الانتهاكات، سارعت الإدارة الجديدة ممثلة بمحافظ حمص عبد الرحمن أعمى إلى احتواء تداعيات الحدث، فأعلنت انتهاء الحملة الأمنية في المنطقة خلال زيارة قام بها المحافظ لقرية مريمين التي يقطنها سوريون من الطائفة المرشدية، وكان لها النصيب الأوفر من التغطية الإعلامية بسبب ما حدث فيها من انتهاكات طالت رموزاً دينية.
وتزامنت أحداث ريف حمص الغربي مع الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان لدمشق، وهو ما أثار العديد من التساؤلات عن مصلحة الحكام الجدد في استقبال الوزير على وقع هذه الأحداث، وما إذا كان ثمة جهات من الداخل والخارج تريد إفشال الزيارة أو إحراج الإدارة الجديدة من خلال إظهار عدم قدرتها على حماية الأقليات، والتي باتت مطلباً دولياً يتكرر يوميا.
ولم ترشح أي معلومات عن اجتماع بن فرحان مع أحمد الشرع الذي استغرق ساعة ونصف ساعة، كما جاء المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره السوري أسعد الشيباني مقتضباً ومقتصراً على أسئلة محدودة.
وتنظر أوساط سياسية سورية إلى زيارة الوزير السعودي على أنها خطوة متقدمة في مسار إعادة سوريا إلى حضنها العربي، بعيداً من سياسة المحاور التي تحاول دول أخرى جذبها نحوها. وتتداول هذه الأوساط أن الرياض لديها تفويض دولي للعمل مع الإدارة الجديدة على ترسيخ الاستقرار وهندسة المرحلة الانتقالية بما يحقق التوازن بين واقع الإدارة الجديدة ومتطلبات القرار 2254 الذي ما زال هو المعتمد أساسا للحل السوري، وفق ما عبّر عنه طوني بلير عندما وجه إلى أسعد الشيباني في مؤتمر دافوس سؤالاً عن الـ 18 شهراً الواردة فيه.
وبعد مغادرة بن فرحان، شوهدت تحركات عسكرية في مدن الساحل وتحديداً في جبلة واللاذقية، لتنتشر الإشاعات كالنار في الهشيم عن سحب "هيئة تحرير الشام" مقاتليها من المنطقة تلبية لطلب الوزير السعودي.
وتصاعدت الإشاعات حتى وصلت إلى الحديث عن عودة ماهر الأسد، ما دفع بعض الأشخاص إلى إطلاق الرصاص في الهواء ابتهاجاً، مع أخبار عن تعرض بعض حواجز الهيئة في اللاذقية لهجمات تم التعامل معها بسرعة.
ونفى ساجد لله الديك، القيادي في إدارة العمليات العسكرية صحة ما يجري تداوله عن انسحاب القوات من الساحل أو أي منطقة، معتبراً أن هدف الإشائعات إضعاف الروح المعنوية. غير أن هذا النفي لم يوقف كرة الشائعات عن التدحرج، وخصوصاً مع تداول المواطنين مشاهداتهم لبعض أرتال القوات تخرج من مدينتي جبلة واللاذقية. وجاء خروج تظاهرات مؤيدة للهيئة في هاتين المدينتين مع أنباء عن حظر التجول في جبلة، ليعطي أثراً عكسياً للمطلوب، إذ عزز الشكوك في رغبة قيادة الهيئة في إخفاء أمر ما.
وفي هذا السياق، يؤكد وضاح عبد ربه رئيس تحرير صحيفة "الوطن"، والمقيم حالياً في باريس وجود معلومات لديه عن صدور تعليمات صارمة من إدارة العمليات بعد اللقاء مع وزير الخارجية السعودي بسحب كل الفصائل من المدن والأرياف وحصر وجودها داخل ثُكَن عسكرية تحت إشراف وزارة الدفاع، والإبقاء على عناصر الأمن العام لفرض الأمن والأمان. ويذكر أن صحيفة "الوطن" توقفت عن الصدور بعد 8 كانون الأول (ديسمبر )غير أن صفحتها على الفيسبوك مستمرة.
وقد عزز هذه المعلومات ما أعلنته وزارة الخارجية الروسية قبل ساعات من وصول بن فرحان إلى دمشق، ومفاده أن القواعد العسكرية الروسية في سوريا قد يصبح لها دور إضافي كمراكز إنسانية.
وتشي هذه التصريحات والتسريبات بتعقيدات المشهد السوري الحالي بأبعاده الدولية والإقليمية، خصوصاً أن سحب القوات الروسية تعتبره ألمانيا ودول أوروبية أخرى مطلباً أساسياً لتقديم الدعم إلى الإدارة الجديدة. ومن شأن ذلك أن يسلط الضوء على احتمال وجود أصابع خارجية تعمل على العبث في مناطق وجود الأقليات، وخصوصاً العلويين، من أجل دفع التطورات في مسارات تخدم أجندات هذه الدول.
ورغم أنه يجري التركيز على دور إيران في هذا السياق، يبدو أن جهات أخرى لها مصلحة في ذلك، أهمها إسرائيل التي بدأت في الفترة الأخيرة بالتركيز على ملف الأقليات في سوريا. وفي ظل المخاوف من قرار محتمل للرئيس الأميركي سحب قوات بلاده من قواعدها في الشرق السوري، لا يستبعد مراقبون للمشهد السوري أن تتلاقى المصالح الإسرائيلية والروسية مجددا في سوريا نظراً إلى تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في هذا البلد، وعمل الأولى على عدم تمكين الثانية من الاستفراد بالخريطة السورية.
وما يعكس التخبط والارتباك في العمل على هندسة المرحلة الانتقالية هو إعلان مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون عدم تبلّغه موعد انعقاد المؤتمر الوطني، علماً أن أخبارا انتشرت عن تحديد موعده في 20 شباط (فبراير)، وهو ما لم يثبت بعد. ولعل ذلك ما يجعل سيناريو تطبيق الجدول الزمني الوارد في القرار 2254 هو الأقرب إلى الواقع، خصوصاً أن الحكومة الموقتة لم يبق من عمرها سوى شهر ونصف شهر، لكن طوني بلير مدده إلى حزيران (يونيو) 2026 وسط تمنع الشيباني عن تصحيح هذا الخطأ، في ما لو كان فعلاً خطأً.