حينما تبدأ الشمس بالمغيب عن قطاع غزة، لا تضيء الإنارات في الشوارع تلقائيا، ولا يتوجه السكان نحو مقابس الكهرباء لإشعال الأضواء لمواجهة عتمة الليل، ولا يفعلون شيئا مما يفعله بقية سكان الكرة الأرضية حين حلول المساء.
لم ينعم الغزيون بالكهرباء طوال الأشهر الـ 14 للعدوان على القطاع، حيث تواصل دولة الاحتلال قطع جميع مصادر الطاقة الكهربائية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ضمن سياسات العقاب الجماعي التي تمارسها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وصدر قرار قطع التيار الكهربائي عن غزة آنذاك عن وزير الحرب المقال يوآف غالانت، حيث أصدر تعليماته لقيادة المنطقة الجنوبية في الجيش بوقف إمدادات الكهرباء لقطاع غزة، بالإضافة لوقف توريد السولار المخصص لتشغيل محطة توليد الكهرباء.
ومنذ صدور هذا القرار، دخلت غزة في دوامة لم تتوقف من الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فالكهرباء كانت جزءاً أساسيا من حياة الغزيين، ومن خلالها كانت تعمل منظومة الاتصالات والإنترنت والتعليم والصحة والأمن بصورة تكمل بعضها البعض.
للشمس قيمة أخرى لدى أهل غزة
تقول النازحة الغزية، وفاء الهواش (45 عاما) إن الحرب غيرت كل شيء "نعيش بلا أحبابنا... ولا أي مقوم من مقوّمات الحياة الطبيعية للبشر... نعيش تلك الحياة التي كنا نسمع عنها من جداتنا... يجب أن نتتبع ضوء الشمس من شروقه حتى مغيبه".
وتوضح السيدة الهوّاش، في حديث مع مراسل "قدس برس" من خيمتها في أحد مخيمات النزوح جنوب غزة، أن انقطاع الكهرباء دفع النازحين إلى تطوير أساليب حياة تتماشى مع حقيقية أن لا كهرباء هنا... غسيل ملابسنا وخياطتها يستدعي مهاراتنا اليدوية، أما حصولنا على نسمة هواء نواجه فيها حر الصيف، دفعنا إلى تحويل كل قطعة من البلاستيك أو الكرتون إلى مروحة تحرك الهواء الساكن في خيام تتحول إلى أفران في ساعات النهار" على حد وصفها.
ويشير النازح "أبو فراس" الذي كان يعمل مهندسا في إحدى الدوائر الحكومية في غزة، إلى أنه طوال سنوات عمره الخمسين، لم يكتشف أهمية الشمس ودورها في الحياة "كما اكتشفناه في مخيمات النزوح المعدومة من الكهرباء"، وأشار بيده نحو الشمس قائلا "تمدنا بالنشاط، الطاقة الكهربائية، الضوء، والأمل.... لم تعد تزعجنا حرارتها بعد اليوم، وأخشى أن نفتقدها في الشتاء".
وحاول الغزيون البحث عن بدائل، مستعينين بمنظومة الطاقة الشمسية، التي بقيت الخيار الوحيد أمامهم لتوليد الكهرباء.
ازداد الطلب على الخلايا الشمسية والبطاريات لتشهد أسعارها ارتفاعا غير مسبوق، فعلى سبيل المثال كان سعر الخلية الواحد بقدرة 500 واط يتراوح (150 - 200 دولار)، ولكنه تضاعف خلال أشهر الحرب ليصل لنحو ألفي دولار للخلية الواحدة.
ويشير مهندس الطاقة طه الأسطل في حديث لـ"قدس برس" أن "الطلب على منظومة الطاقة الشمسية ارتفع منذ الأيام الأولى للحرب، حيث بدأت مؤسسات دولية وحكومية وحتى أهالي ومواطنون يستفسرون عن التكلفة التقديرية لمنظومة الطاقة الشمسية".
وأضاف "كان متوسط تكلفة النظام يتراوح في البداية من (1000 - 1500 دولار)، ولكن بسبب ازدياد الطلب وصلت التكلفة الحالية لنحو عشرين ألف دولار".
ومع ذلك يشير المهندس الأسطل أن "غالبية البطاريات الموجودة في القطاع تراجعت كفاءتها، وانخفض أداؤها بصورة كبيرة عما كان عليه الوضع قبل عام من الآن، والسبب وراء ذلك يكمن في تعرض البطاريات لمشاكل وإعطاب بسبب سوء الشحن وعدم انتظام التيار المغذي لها من الخلايا الشمسية".
لم يستطع غالبية أهالي القطاع تحمل التكلفة المالية لشراء منظومة الطاقة الشمسية، فكان الخيار هو اللجوء إلى نقاط الشحن، حيث يُشْحَن الهاتف أو جهاز الحاسوب أو البطاريات المخصصة لتشغيل الأضواء المتنقلة، عبر نقاط شحن تنتشر في الشوارع مقابل مبلغ مالي بمتوسط نصف دولار عن كل ساعة شحن.
وتتم عملية الشحن عبر النقاط الخارجية بمعاناة وبتكاليف مالية كبيرة، فعلى سبيل المثال يخصص وقت شحن الهواتف ما بين الساعات الأولى من النهار وحتى وقت الظهيرة، أما شحن الحواسيب والبطاريات، فكانت في الوقت المتبقي من الظهيرة وحتى غروب الشمس، وهذا يتطلب جهدا كبيرا في نقل وحمل البطاريات والمشي لمسافات طويلة لنقلها ثم العودة مجددا لاستلامها.
بالنسبة لمشاهدة التلفاز لمتابعة الأخبار والتحليلات، فكان الخيار الوحيد هو اللجوء إلى الاستراحات والمقاهي، حيث فتح كثير من المواطنين مصدر رزق خلال الحرب عبر تخصيص مساحة لمتابعة شاشات التلفاز ومباريات كرة القدم مقابل مبالغ مالية صغيرة يدفعها المشاهد عن كل ساعة يجلس فيها.
واقع كهرباء غزة قبل الحرب
كان قطاع غزة قبل الحرب يعاني عجزاً في وصول التيار الكهربائي، حيث كان جدول الكهرباء المعمول به هو ثماني ساعات وصل ومثلها قطع، حيث تعمد الاحتلال إبقاء قطاع غزة في أزمة الكهرباء كأحد أساليب الضغط على حركة "حماس" التي تدير شؤون حياة الغزيين.
ويعتمد قطاع غزة على مصدرين رئيسيين لإمدادات الكهرباء، الأول محطة توليد الكهرباء التي تقع في وسط القطاع، وهي تعمل بكفاءة منخفضة، إذ لا تزيد كميات الكهرباء الناتجة عنها 90-100 ميجا واط.
وكانت تعمل محطة التوليد سابقا بطاقة تشغيلية تتراوح ما بين 220-240 ميجا واط، ولكنها تعرضت لقصف إسرائيلي في العام 2007، أدى إلى تعطلها وخروج أربعة توربينات عن الخدمة من أصل ستة توربينات، قبل أن تُصْلَح لاحقا بتمويل من الاتحاد الأوروبي لتعود إلى العمل بأقل من نصف قدرتها التشغيلية.
بالنسبة للمصدر الثاني للتزود بالكهرباء، فكانت خطوط النقل الكهربائي القادمة من دولة الاحتلال، التي كانت تمد القطاع بنحو 120 ميجا واط عبر شبكات النقل الكهربائي التي كانت تمتد من مستوطنات غلاف غزة إلى داخل القطاع وعددها عشرة خطوط قدرة كل واحدة منها اثنا عشر ميجا واط.
هذا بالإضافة لمصادر ثانوية منها مولدات تابعة للقطاع الخاص، التي كانت تبيع الكهرباء للمواطنين مقابل أسعار مرتفعة نسبيا، بالإضافة لاعتماد جزء من مؤسسات قطاع غزة على مصادر الطاقة الشمسية التي زاد الاعتماد عليها في السنوات الأخيرة، وكانت توفر نحو 30 ميجا واط.
كانت كمية الكهرباء المتوفرة في قطاع غزة من المصادر جميعها تقدر بـ250-300 ميجا واط، في حين يقدر الاستهلاك بنحو 500 ميجا واط، ويصل لـ600 ميجا واط في أوقات ذروة فصلي الشتاء والصيف.
خلال الحرب الجارية على غزة تعمدت دولة الاحتلال تدمير منظومة البنى التحتية الخاصة بشركة الكهرباء، فاقتلعت عمدان الضغط العالي، كما عملت على تقطيع الموصلات والكوابل الناقلة للكهرباء، بالإضافة لتدمير "الترنسات" و"المكثفات" الرئيسية.
وحينما بدأت الشمس بالرحيل، بدأ النازحون في خيامهم بتجميع صغارهم والتأكد من أنهم داخل خيامهم أو مراكز الإيواء، ليبدؤوا فترة الليل والعتمة متحلقين حول ضوء الهاتف النقال، الذي شُحِن طوال ساعات النهار من ألواح الطاقة الشمسية... تلك الشمس التي لم يتمكن الاحتلال من منعها من الشروق على أهالي القطاع.