رغم مرور نحو 14 شهرا على العدوان على قطاع غزة، لا يزال جيش الاحتلال عاجزا عن وضع تصور لليوم التالي، وهو ما تبرر به حكومة رئي بنيامين نتنياهو مواصلتها للحرب من دون أفق واضح لنهايتها.
ومع الصمود الأسطوري لسكان قطاع غزة والمقاومة فيه، فقد فشلت السيناريوهات كلها التي تقدمت بها دوائر داعمة لحكومة الاحتلال بشأن "اليوم التالي"، من قبيل إدارة العشائر أو عودة السلطة الفلسطينية، أو إدارة مدنية مدعومة من الولايات المتحدة ودول عربية، إلى فكرة إغراق القطاع بالفوضى وسيطرة مرتزقة وتجار حروب عليه.
وفي ظل محاولة تطبيق الاحتلال خطة الجنرالات في شمال غزة، طفت على السطح مؤخرا أنباء تتحدث عن "خطة فقاعات إنسانية تقدمت بها مراكز دراسات مقربةٌ من حزب الليكود الحاكم.
وتقضي الخطة الجديدة التي نشرت بعضَ ملامحها صحيفة "وول ستريت جورنال" الامريكية إلى عزل المواطنين غير المؤيدين لحركة حماس وفصائل المقاومة في بقع إنسانية منفصلة، بينما يتم تقسيم القطاع بواسطة خطين عرضيين يخضعان لإدارة الاحتلال عسكريا، والذي سيسيطر أيضا على كامل الشمال والحدود الشرقية بالإضافة لمعبر صلاح الدين (فيلادلفيا).
ونقلت الصحيفة عن الجنرال السابق في جيش الاحتلال إسرائيل زيف -الذي ساهم في وضع الخطة- قوله إنه "بإمكان المدنيين الذي يدينون حماس العيشَ في مناطق معزولة، قرب منازلهم في الشمال، مع إمكانية زيادة هذه البقع تدريجيا، وتدار من قبل تحالف يضم الولايات المتحدة ودول عربية
وبحسب زيف -الذي سبق أن أشرف على الانسحاب من غزة في 2005- فإن هذه الخطة قد تستمر 5 سنوات قادمة، يمكن خلالها للسلطة الفلسطينية أن تستعيد سيطرتها الأمنية والإدارية على القطاع، كما أنه يمكن "لحماس منزوعة السلاح" أن تساهم في إدارة القطاع.
ويرى الباحث سعيد زياد أن خطة الفقاعات أو البؤر الإنسانية هي ترجمات لخطة أعلن عنها جيش الاحتلال ويقوم الآن بترجمتها واقعا على الأرض، ورصدها الكثير من الخبراء والمحللين الإسرائيليين، وتتمثل في إقامة مناطق مطهَّرة من المقاتلين، بحيث يتم توزيع المساعدات الإنسانية من خلال شركات أو عائلات محلية تتعاون مع الاحتلال.
واوضح أن الحاضنة الشعبية الفلسطينية ترفض التعامل مع أية جهة قادمة على ظهر دبابات الاحتلال، سواء كانت من السلطة الفلسطينية أو عائلات متعاونة أو حتى قوات عربية وإقليمية.
وتستدعي الخطة -التي نشرتها وول ستريت جورنال في يونيو/حزيران الماضي- خطة الأصابع، التي أطلقها أرييل شارون في 1971، واستمر تطبيقها حتى الانسحاب الأحادي من قطاع غزة في 2005، والتي قسّمت غزة آنذاك إلى 4 مناطق معزولة للمواطنين، وتتخللها عرضيا 5 أصابع اليد، تتكون من مستوطنات صهيونية ومناطق عسكرية مغلقة.
وبحسب صحيفة هآرتس العبرية، فإن جيش الاحتلال قد بدأ فعلا بإعادة العمل بخطة الأصابع، ففي مارس/آذار الماضي افتتح "محور نتساريم"، بطول 7 كيلومترات وعرض 8 كيلومترات، والذي يفصل محافظة الشمال ومدينة غزة عن بقية وسط وجنوب القطاع، وبما يعادل 15% من مساحة القطاع.
وزعم الاحتلال يومها أن المحور مخصص لأغراض الإنسانية، لكنه لم يُستخدم لذلك الغرض إلا مرات محدودة.
وفي مايو/أيار سيطر جيش الاحتلال على معبر رفح ومحور صلاح الدين "فيلادلفيا"، وعزل القطاع عن العالم الخارجي فيما يشبه "الإصبع الخامس" من خطة شارون.
ويمتد محور "فيلادلفيا" جنوبا بطول 14 كيلومترا، حيث زعمت إسرائيل أن السيطرة جاءت لمنع تهريب السلاح عبر الأنفاق أسفل المحور.
ومع إعادة اجتياح شمال لقطاع غزة في عملية ما زالت مستمرة منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قام الاحتلال بتهجير السكان قسرا، وسط عمليات نسف وتجريف لمنازلهم في بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، وأظهرت وسائل إعلام إسرائيلية في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني، خريطة جديدة تظهر شق محور جديد يدعى "مفلاسيم"، يفصل محافظة الشمال عن مدينة غزة.
وجاء إنشاء المحور، بعد أسابيع من الترويج لـ"خطة الجنرالات"، التي تهدف لتفريغ شمال قطاع غزة من سكانه، تمهيدا لعودة الاستيطان.
ورغم نفي الاحتلال تنفيذ الخطة، إلا أن المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، كتب في 11 نوفمبر/تشرين الثاني أن "الجيش يتنصل من العلاقة بخطة الجنرالات، التي حظيت بانتقاد دولي، لكنه في الواقع ينفذ جزءا كبيرا منها"، كما قام الاحتلال بتشكيل منطقة عازلة على امتداد المنطقة الشمالية لبيت حانون وبيت لاهيا، بما يمثل الإصبع الأول لخطة شارون.
وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني أعلن جيش الاحتلال إعادة فتح معبر كيسوفيم وتأهيله فنيا ولوجستيا لإدخال مساعدات إلى جنوب القطاع، وبحسب هآرتس سيصبح كيسوفيم محور تقطيع رابعا يضاف إلى "مفلاسيم" و"نتساريم" و"فيلادلفيا"، وسيشكل الإصبع الرابع من الخطة.
وهكذا سيتوزع مليونا فلسطيني على شكل فقاعات معزولة ومشلولة الحركة في المناطق المتبقية.
أما في الجنوب فقد رشحت معلومات عن فتح محور كيسوفيم ليفصل الوسط عن منطقة خان يونس، إضافة إلى توسيع معبر رفح ونسف مربعات سكنية كاملة من أجل هذه الغاية.
على أن بعض دوائر الدراسات اليمينية تهمين عليها فكرة الحكم العسكري الكامل للقطاع، ولا ترى أي شكل لإدارة فلسطينية منتظرة، مثل معهد "مسغاف" للأمن القومي والإستراتيجية الصهيونية، وهو مركز أبحاث يميني يرأسه رئيس الأمن القومي السابق مائير بن شبات.
ويرى مراقبون اسرائيليون أن جيش الاحتلال يحتاج إلى ضمان عدم قدرة نحو 75% من مقاتلي فصائل المقاومة في غزة على القتال، قبل أن تتمكن قوة أمنية أخرى من إدارة القطاع، ويقول هؤلاء: "قد تكون هناك فترة سنة إلى 5 سنوات، نحتاج فيها إلى نوع من الإدارة العسكرية".
ويقول المعهد إن أفكاره ساعدت في صياغة خطة تبنّاها أعضاء في الليكود، تضمنت إنشاء محيط أمني حول غزة وممرين يقطعان عرضها، في حين يظل شمال غزة من دون إعمار، ولن يُسمح للمواطنين بالعودة إلى منازلهم حتى يتم تدمير شبكة الأنفاق .
ومثل خطة الفقاعات، فإنها تعزز فكرة مناطق خفض التصعيد، حيث يمكن تسليم المساعدات من قبل جيش الإحتلال أو من قبل قوات دولية، لكنها لا تصل إلى حد صياغة فكرة للحكم.
وتدعو خطة أخرى، وضعتها مايند إسرائيل، وهي منظمة غير ربحية يقودها رئيس سابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، إلى العمل مع الولايات المتحدة والحكومات العربية لإنشاء هيئة حاكمة فلسطينية جديدة، تعمل على "وقف الإرهاب ضد إسرائيل".
وتقول الخطة إن المناقشات حول إنشاء دولة فلسطينية يجب أن تبدأ بعد 5 سنوات من الحرب، وإنه لا يجب مكافأة هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بإنشاء دولة الآن، وهي محاولة لجمع المتناقضات؛ بين رؤية نتنياهو وفريقه اليميني الذين لا يرون وجودا لدولة فلسطينية، وبين التردد العربي في قبول أطروحات إسرائيلية لا تؤيد "حل الدولتين".
من جهته، يتبنى مركز ويلسون في واشنطن نهجا تحالفيا في التعامل مع الصراع، ولكن من دون أي ضغط على إسرائيل لقبول فكرة دولة فلسطينية.
وتقول الخطة إن على الولايات المتحدة إنشاء قوة شرطة دولية لإدارة الأمن في غزة، ثم تسليم المهمة إلى إدارة فلسطينية لم يتم تحديدها بعد.
وقال روبرت سيلفرمان، وهو دبلوماسي أميركي شارك في صياغتها "إن الخطة نوقشت مع مسؤولين إسرائيليين، وأجريت عليها تعديلات لتتوافق مع أهداف الحرب والتحركات السياسية، لكن الأمر تعثر في مكتب نتنياهو".
ومنذ بداية العدوان على غزة قُدمت سيناريوهات مختلفة لإدارة القطاع، تضمنت تشكيل إدارات محلية، سواء عبر العشائر، أو تشكيل إدارة خارجية بمشاركة دول إقليمية.
وكان من أقدم هذه الخطط ما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" في ديسمبر/كانون الأول 2023، وهي خطة حظيت بقبول أميركي، تقوم على تسليم مسؤولية إدارة غزة للسلطة الفلسطينية، بعد تعزيز قدراتها وتشكيل حكومة جديدة وتدريب قواتها الأمنية.
وفي يناير/كانون الثاني من هذا العام، كشفت قناة "كان" الإسرائيلية عن خطة أخرى تهدف إلى تقسيم غزة إلى مناطق تديرها العشائر ، حيث تتولى فيها مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية وإدارة الحياة المدنية لفترة مؤقتة غير محددة.
وكان بنيامين نتنياهو أعلن عن خطة في فبراير/شباط الماضي، تقضي بنزع سلاح غزة، وإغلاق الحدود مع مصر، وتكليف عناصر محلية بالإدارة المدنية.
وتحدثت صحيفة "نيويورك تايمز" عن خطة رابعة في مايو/أيار الماضي، نقلا عن مسؤولين إسرائيليين، وتتضمن إشرافا مشتركا على غزة تقوم به إسرائيل ودول عربية والولايات المتحدة.
ثم جاءت الخطة الخامسة، التي عُرفت باسم "خطة الجنرالات" وتهدف إلى تحويل منطقة شمال محور نتساريم، أي محافظتي غزة والشمال، إلى منطقة عسكرية مغلقة.
وبدا أن إسرائيل غير مستعدة لإدارة القطاع وتحمّل أعبائه بطريقة مباشرة، وهو الأمر الذي أكده تحليل صادر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب، في 15 أكتوبر/تشرين الأول، رفض فيه فكرة إدارة إسرائيل لقطاع غزة، واقترح بدلا من ذلك إدارة بعيدة وغير مباشرة، وتخصيص مناطق إنسانية لتوزيع المساعدات بإشراف منظمات دولية.
و يبدو ان "خطة الفقاعات" تصطدم بواقع إنساني كارثي على الأرض، يحول دون تطبيقها بحسب ما يهوى السياسيون والعسكريون الإسرائيليون. كما أن صمود المقاومة الفلسطينية يشكل حجر عثرة صلبا، يعيق تقدمها.
وعلى الصعيد الإنساني، تحدث الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، جان إيغلاند، عن أن "خطة الفقاعات تثير مخاوف بين العاملين في المجال الإنساني من أنها ستعمل كمناطق احتواء عسكرية تشكلت عبر النزوح القسري".
وحذّر إيغلاند، هذا الشهر من أن المساعدات الإنسانية وحرية التنقل ستخضع للسيطرة السياسية والعسكرية، ما ينتهك المبادئ الإنسانية ويتجاهل حتى الحماية الأساسية للمدنيين.
وكان الكاتب الإسرائيلي شموئيل أورنيتز أقر في تحليل لموقع "روزا ميديا" الإسرائيلي ونُشر في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بوجود محاولة لفتح فرص تجارية لشركات تعمل في مجال اللوجستيات والأمن بسبب القتل والأزمة الإنسانية الرهيبة التي تخلقها إسرائيل في غزة وتحافظ على استمرارها، والتي يبدو أنها لن تنتهي قريبا.
وعلى الصعيد العسكري، فإن ثبات فصائل المقاومة يمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها، وهو ما عبّرت عنه صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" العبرية بقولها، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني: "رغم رغبة نتنياهو في نهاية ناجحة لحملته، فحماس ليس لديها حافز للقبول بأقل من تحقيق النصر".
وتتابع الصحيفة : "هذا النصر يتمثّل في صفقة لإطلاق سراح الاسرى المحتجزين؛ وهذا يعني أن الحركة ستبقى في غزة، وستكون في وضع يسمح لها باستعادة قدراتها العسكرية والحكومية ببطء".
ولا تزال إسرائيل تتوقف أمام العوائق التي تحول دون السير قدما في تنفيذ هذه السيناريوهات ، ويبقى على رأسها موضوع الأسرى الذين لم تصل إليهم إسرائيل حتى الآن، وصلابة المقاومة واستمرار عملياتها النوعية ضد قوات الاحتلال ورفض اليمين الحاكم بقيادة نتنياهو لوجود السلطة الفلسطينية في غزة، بل وذهاب اليمين المتطرف إلى ضرورة إعادة السيطرة العسكرية على الضفة الغربية، وكذلك البعد الإقليمي المتمثل في استمرار القتال في جنوب لبنان، والخوف من دخول فعلي لإيران في الحرب.