مقالات __ كتاب __ صوت جرش
لم يعد السؤال عن موقف الأردن من تهجير الفلسطينيين مطروحا، الرسالة الملكية كانت قاطعة: لا تفريغ لغزة، ولا عبث بالضفة، ولا مساس بالهوية الأردنية، هذا الموقف الراسخ شعبيا ورسميا ليس وجهة نظر، بل معادلة ثابتة لا مجال للمساومة عليها. لكن في السياسة كل موقف له ثمن والأردن يدرك ذلك جيدا.
المشهد اليوم يعيد إلى الأذهان مواقف أردنية سابقة كلفت البلاد حصارًا سياسيًا واقتصاديًا، لكنها حافظت على استقلالية القرار الوطني. عام 1990، عندما رفض الأردن الانضمام إلى التحالف العسكري ضد العراق، تعرض لحصار خانق، عوقب اقتصاديًا وسياسيًا، لكنه لم يساوم على موقفه.
واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بطرق مختلفة، حيث إن رفض الأردن لأي هندسة ديموغرافية جديدة في فلسطين، سواء في غزة أو الضفة الغربية، يضعه في مواجهة مباشرة مع محور دولي وإقليمي يسعى إلى فرض معادلات جديدة في المنطقة.
اللحظة الراهنة تحمل في طياتها تحديات غير مسبوقة، إذ تتصدر إسرائيل المشهد بحكومة يمينية متطرفة تعيش حالة فائض قوة غير مسبوقة، يقودها رئيس وزراء محاصر سياسيًا لكنه مندفع نحو فرض وقائع على الأرض بأي ثمن. في المقابل، فإن الإدارة الأميركية، بقيادة دونالد ترامب تتبنى مقاربات تمزج بين البراغماتية السياسية والعقيدة الدينية لتيار اليمين الإنجيلي، ما يجعل دعمها لإسرائيل غير مشروط ولا مقيد حتى بأبسط الاعتبارات الإنسانية أو القانونية.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في غزة، فالحديث عن تهجير سكان القطاع إلى الأردن لم يكن يومًا عمليًا ولا منطقيًا لأسباب ديموغرافية وجغرافية وسياسية معقدة، وإنما كان غطاءً دعائيًا يخفي وراءه الهدف الحقيقي: الضفة الغربية.
منذ نهاية العام الماضي، تكاثرت التصريحات الصادرة عن جنرالات إسرائيليين، تشير إلى أن عام 2025 سيكون عام الضفة الغربية، وهو ما تؤكده الوقائع على الأرض؛ فمنذ بداية العام، تم تهجير أكثر من 60 ألف فلسطيني من مخيمات شمال الضفة الغربية، ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى تفريغ المناطق الفلسطينية من سكانها وتهيئتها لمشاريع الضم والاستيطان.
هذا الواقع يضع الأردن أمام استحقاق مصيري أكثر من أي وقت مضى، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية أيمن الصفدي في أكثر من مناسبة عندما قال بوضوح: “تهجير الفلسطينيين إلى الأردن يعني إعلان الحرب”. لم يكن هذا التصريح مجرد موقف دبلوماسي، بل رسالة صريحة بأن الأردن يدرك حجم التهديد، وأنه يضع في حساباته جميع السيناريوهات، بما في ذلك السيناريو العسكري إذا ما تم تهديد استقراره وهويته الوطنية.
لكن المواجهة لا تعني التسرع أو الانفعال، بل تعني إدارة الصراع بذكاء وحنكة سياسية، وهو ما تقوم به الدبلوماسية الأردنية بقيادة الملك عبد الله الثاني، حيث يتم التحرك على أكثر من جبهة؛ فمن جهة، يتم تعزيز الموقف الأردني عربيًا ودوليًا، ومن جهة أخرى، يتم تقوية الجبهة الداخلية عبر خطاب وطني موحد يرفض أي تسوية على حساب المصالح الأردنية العليا.
الموقف الأردني يجب أن يحافظ على تصاعدية، ليس فقط كرد فعل على التطورات، بل كجزء من استراتيجية دفاعية شاملة. فالأردن لا يتعامل مع أزمة عابرة، بل مع مشروع إسرائيلي مدعوم أميركيًا يهدف إلى إعادة رسم الخارطة الديموغرافية والسياسية في فلسطين. وعليه، فإن الخيارات الأردنية يجب أن تتنوع بين التصعيد الدبلوماسي، وتعزيز التحالفات الإقليمية، والجاهزية الأمنية على الأرض لمواجهة أي سيناريو محتمل.
ما نشهده اليوم ليس فصلًا نهائيًا في القصة، بل بداية لمعركة طويلة الأمد، يتطلب فيها الموقف الأردني صمودًا وتكيّفًا مستمرًا مع المتغيرات. الأردن لا يدافع فقط عن نفسه، بل عن القضية الفلسطينية في لحظة فارقة من التاريخ، وهو ما يجعل من ثبات موقفه ضرورة وطنية وقومية في آن واحد.