المرشد الإيراني لـ"حزب الله": الامـر لي!
نشر السفير الفرنسي في قطر جان باتيست فافر، مساء الخميس، خلاصة للقاءات عقدها المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان في الدوحة مع كبار المسؤولين في قطر، للبحث في الموضوع اللبناني بمجمل تعقيداته، بدءاً بالهجوم البرّي الذي بدأه الجيش الإسرائيلي بداية هذا الأسبوع على القرى والبلدات الجنوبية المتاخمة للحدود. ما يلفت الانتباه في الخلاصة التي نشرها فافر، أنّه، للمرة الأولى يخلو من الضبابية الدبلوماسية التي تسببت بالانهيارات الصاعقة لكل المبادرات الفرنسية.
ووفق فافر بحث لودريان ومضيفوه القطريون الجهود العاجلة والمشتركة في لبنان من أجل "حل الأزمة على أساس احترام سيادة لبنان والالتزام الصارم بقرار مجلس الأمن الدولي".
وهذا عنصر جديد في الأدبيات المعلنة للدبلوماسية الفرنسية. لم يسبق لها، ومنذ سنوات، أن أبدت تأييدها الصريح لوجوب "الالتزام الصارم" بالقرار 1701. في مجلس الأمن الدولي كانت باريس، ومنذ سنوات عدة، كلّما تمّ طرح موضوع التجديد لليونيفيل، وفق مقتضيات هذا القرار الذي أوقف حرب تموز (يوليو) 2006، تتصرف على أساس إيجاد تسوية من شأنها إرضاء "حزب الله". "حزب الله" طالما تصرّف على أساس أنّه قوة شرعية لها حق الوجود العسكري في المنطقة المفترض أنّها محظورة عليه، أي من الحدود حتى الضفة الشمالية لنهر الليطاني.
هذه المرة، ووفق ما يتضح ممّا نشره السفير الفرنسي في قطر، أصبح إرضاء "حزب الله" وراء ظهر "ألطف" دولة غربية، في التعاطي معه!
ليس هناك تفسيرات كثيرة لهذا الحدث. هناك معنى واحد له: لن يكون هناك أيّ ضغط حقيقي على إسرائيل حتى توقف حربها على لبنان والانسحاب من الأراضي التي بدأت إعادة احتلالها، إلّا بإخضاع "حزب الله" لموجبات القرار 1701، أي وقف كل نشاطات عسكرية له، من أي نوع كانت، في منطقة لا شرعية فيها إلا للجيش اللبناني بمؤازرة اليونيفيل.
ولهذا المعنى بعد جوهري. لن يستطيع المجتمع الدولي التدخل لوقف الهجوم الإسرائيلي الشامل (برّاً، بحراً وجوّاً) إلّا إذا تراجع "حزب الله" عن إصراره على ربط جبهة لبنان بجبهة غزة.
بمقياس المنطق، وبعد ثبوت هذا الخلل الفظيع في ميزان الرعب بين "المقاومة الإسلامية في لبنان" وحلفائها الداعمين في العراق واليمن وسوريا وإيران، من جهة، وإسرائيل، من جهة أخرى، لا بد من أن تسارع "القيادة البديلة" في "حزب الله" الى اعتماد استراتيجية "الحد من الخسائر" والموافقة على هذا الطرح.
لقد أثبتت إسرائيل على كل المستويات أنّها، وربما للمرة الأولى، منذ العام 1978، تمكنت في المسألة اللبنانية، من مواءمة النيات السياسية والشعبية والاستراتيجية مع القدرات الأمنية، والعسكرية، والتقنية، والتنفيذية. وفي تقييم عام، أجري للأيّام الأولى من التوغل البرّي، وهي مركزية في استشراف الخطوات الحربية المقبلة، بدا واضحاً أنّ الجيش الإسرائيلي "مرتاح" الى النتائج. لا يبدو أنّه يعير كبير اهتمام للخسائر البشرية التي تكبدها في "الهجوم الاستشرافي"، لأنّ الأهم، بالنسبة إليه، هو استخلاص وضعية "العدو". وفي هذا المجال، ظهر له أنّ الضربات المذهلة التي وجهها الجيش الإسرائيلي بالتعاون الوثيق مع أجهزة المخابرات، لـ"حزب الله"، أعطت مفاعيلها، إذ تبيّن أنّ مقاتلي "المقاومة الإسلامية"، على رغم تمتعهم بالتدريب الممتاز وحيازتهم على الأسلحة الدفاعية الحديثة وتمكنهم من تجهيز الميدان لمعارك ضارية، يعانون من "حالة الإرهاق". هذه، وفق القاموس العسكري، ليست إشارة الى المؤهلات الجسدية، ولكن الى الحالة النفسية العامة.
يحاول القائمون بأعمال السلطة في لبنان الإيحاء بقدرتهم على إقناع "حزب الله" بهذا المنحى، ولكنّهم يحاولون أن يأخذوا في المقابل، ما يمكنهم من "حفظ ماء وجه" هذه الجماعة العسكرية الضخمة، نظراً الى ارتباطها بشريحة كبيرة من اللبنانيين، من جهة، وبمحور إقليمي مهم، من جهة أخرى.
لكن دون نجاح محاولاتهم هذه عقبات كثيرة، وذلك لأسباب متعددة، من بينها أنّ إسرائيل هذه المرة لا تخوض حرب تحسين مواقع بل حرب تحصين الوجود.
ولم يكن ينقص هذا التعقيد سوى الدخول القوي لمرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي على الخط، بحيث بدا، في خطبة ألقاها والبندقية الى جانبه، بعدما أمّ المصلين، للمرة الأولى منذ خمس سنوات، في وضعية من يعلن لـ"حزب الله" على مرأى العالم كله: "الأمر لي".
في هذه الخطبة دعا خامنئي مقاتلي "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى مواصلة القتال. أفهمهم أنّ هذه هي وصية كل من الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله ورئيس المكتب السياسي السابق لـ"حماس" إسماعيل هنية، وسائر القادة الذين استشهدوا.
ووجه كلامه الى مقاتلي "حزب الله" الذين وصفهم بـ"شعب لبنان" وقال لهم: "لا تترددوا في طريق النضال، زيدوا جهودكم وقواتكم، ضاعفوا تضامنكم، وواجهوا العدو المعتدي. قووا إيمانكم وثقتكم وقاوموه وأحبطوه".
على امتداد خطابه، كان الخامنئي حريصاً على إظهار التنظيمات اللبنانية والفلسطينية قادرة وحدها على الانتصار على إسرائيل. هو لم يلوّح حتى بالدخول الى الحرب الى جانبها. الشق الإيراني من هذه المعركة محصور فقط بالرد على كل ما يستهدف إيران مباشرة.
أمام هذا المسار الذي رسمه الخامنئي، فإنّ على "حزب الله" أن يواصل حربه، مهما كانت النتائج، إلى أن يأمره من هو "القائد الأعلى" أي "الولي الفقيه" بأمر مختلف.
وبذلك، يحاول الخامنئي أن يعوّض بما له من سلطة عليا على "حزب الله" تغييب القيادة في لبنان، من خلال تسليمها، تحت إشرافه المباشر، إلى "فيلق القدس".
إلى أين يمكن أن يؤدي كل ذلك؟
خطوة الخامنئي قد ترجئ الجواب بعض الوقت، ولكنّها من دون شك سوف ترفع منسوب المخاطر من اشتعال حرب إقليمية!