على مدى عامٍ ونصف العام، يبقى المستشفى (الأهلي العربي) المعمداني اسمًا بارزًا ضمن أكثر من 36 مستشفى دمّرها الاحتلال عمدًا وأخرجها عن الخدمة، في إطار خطة ممنهجة للقضاء على ما تبقى من القطاع الصحي في قطاع غزة، في انتهاك فاضح لكل المواثيق الدولية والاتفاقيات التي تحظر استهداف المنشآت الطبية.
ولم يكتفِ الاحتلال بقتل أكثر من 500 فلسطيني وإصابة 600 آخرين جراء قصفه لساحة المستشفى عمدًا يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 2023، في أشنع وأبشع مجزرة قام بها، ليعود مرة أخرى باستهداف المستشفى وتدمير مبنى العيادات الخارجية والمختبر والإسعاف والطوارئ والصيدلية وقسم الأشعة، ما أسفر عن استشهاد طفلة في مبنى العيادات الخارجية.
كما أدى القصف إلى خروج مستشفى المعمداني عن الخدمة، وهو المستشفى الوحيد الذي يستقبل المرضى والجرحى في مدينة غزة، بعد خروج مستشفى الشفاء عن الخدمة جراء تدميره خلال حرب الإبادة الجماعية المتواصلة.
"الأقدم بغزة"
مستشفى المعمداني الذي يُعَدّ واحدًا من أقدم مستشفيات قطاع غزة، أُنشئ قبل أكثر من 140 عامًا، وعُرف وقتها بـ"المشفى الأهلي العربي"، وكان أقدم مستشفى في فلسطين المحتلة تقريبًا. ويقع في منطقة سكنية في حي الزيتون بقطاع غزة.
تم تأسيس المستشفى في عام 1882 على يد البعثة التبشيرية التابعة لإنجلترا. وتُعدّ الكنيسة المعمدانية واحدة من ثلاث كنائس للمسيحيين في غزة، وهي كنيسة القديس برفيريوس، والكنيسة اللاتينية.
وأثناء الحرب العالمية الأولى، تعرّض المستشفى المعمداني للتدمير، لكن أُعيد بناؤه ثانية في عام 1919، وأُطلق عليه اسم "المستشفى الأهلي العربي". وعند انتهاء حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين – حيث كانت غزة تابعة لمصر – قررت البعثة التبشيرية الإنجيلية التابعة لإنجلترا إقفال أبواب المستشفى، لكن البعثة المعمدانية تكفّلت به وبإدارته.
وفي أواخر الأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، نشب خلاف حول ملكية المستشفى عقب إلغاء الإدارة المصرية قانون الوقف الأهلي في غزة، مما عرض ممتلكاته وأراضيه لخلاف على الملكية.
المشرفون على المستشفى استمروا في تقديم الخدمات للمرضى رغم الاحتلال الإسرائيلي للقطاع عام 1967، كما بنوا طابقًا ثانيًا ليضم مكتبًا ومختبرًا وثلاث غرف خُصّصت لأغراض علاجية متنوعة.
وتعرّض المستشفى لانتكاسة جديدة في عام 1976، عندما قطعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) المساعدات عنه وأوقفت دعمها لمدرسة التمريض التابعة له، فتراجعت خدماته وتقلص عدد موظفيه، حيث انخفض عدد الأطباء فيه إلى ثلاثة فقط، ومعهم 28 ممرضًا، الأمر الذي أدى إلى تراجع عدد المرضى فيه.
وفي نهاية السبعينيات، عادت ملكيته لأبرشية القدس الأسقفية، وواصل تقديم خدماته بعد تلقيه التمويل من الجمعية المتحدة الفلسطينية في الولايات المتحدة. وتم بناء أقسام أخرى، إضافة إلى توفير معدات طبية متطورة له، ليتحوّل إلى مؤسسة صحية تضم أقسامًا مختلفة.
وأُضيف إليه قسم الطوارئ والعمليات الجراحية مثل جراحة العظام، إلى جانب أقسام أخرى مثل قسم الولادة، والعلاج الطبيعي، والحروق، وقسم الأشعة، والعيادات الخارجية، والمختبر الخاص به.
وطوال تاريخه، قدّم المشفى الكثير من الخدمات الطبية لكافة مواطني وأهالي قطاع غزة، والوافدين من باقي المدن الفلسطينية. كما اعتمد عليه أهالي القطاع أثناء القصف الإسرائيلي على منازلهم ومحاولة إجبارهم على التهجير، فاستقرّ العديد منهم في ساحة المستشفى القديم، لاعتباره مصدر أمان لهم.
"تحدٍ للقانون الدولي"
مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، الدكتور إسماعيل الثوابتة، قال إن الطائرات الحربية "الإسرائيلية" استهدفت بشكل مباشر المستشفى المعمداني في مدينة غزة، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من هذا الصرح الطبي الذي يعد من أعرق وأهم المستشفيات في قطاع غزة.
وأوضح الثوابتة في تصريح خاص لوكالة "شهاب" للأنباء، أن المستشفى كان يعجّ في لحظة الاستهداف بالمئات من المرضى والجرحى والطواقم الطبية، في وقت تعيش فيه المنظومة الصحية في غزة حالة انهيار شبه تام بسبب الحرب المستمرة والحصار الخانق.
وأضاف أن هذا الهجوم هو تكرار لجريمة سابقة ارتكبها الاحتلال داخل المستشفى نفسه، حيث سقط المئات من المدنيين في مجزرة مروعة، في تحدٍ صارخ للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر استهداف المنشآت الطبية.
كما أكد الثوابتة أن الاحتلال دمر بالفعل 36 مستشفى في غزة، ضمن سياسة ممنهجة لتدمير البنية الصحية في القطاع، مطالبًا المجتمع الدولي، وخصوصًا الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية، بالتدخل العاجل لإدانة هذا الهجوم الذي وصفه بالإرهاب المنظم، داعيًا إلى اتخاذ خطوات جادة لحماية ما تبقى من المنشآت الطبية في القطاع.
"إهانة لجميع المسيحيين"
وأدان بطاركة ورؤساء كنائس القدس قصف المستشفى المعمداني، وقال السكرتير الثاني لمجلس بطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، وأحد رعاة كاتدرائية القديس جورج الأنجليكانية، القس الكنن دون بندر، إن قصف الاحتلال الإسرائيلي مستشفى المعمداني في مدينة غزة وتدميره وإخراجه بالكامل عن الخدمة في أحد الشعانين يُعدّ إهانة لجميع المسيحيين وانتهاكًا لجميع قواعد السلوك الإنساني.
وأضاف: "في الساعات الأولى من صباح أحد الشعانين، دمّرت غارة صاروخية مزدوجة من طائرات إف-16 إسرائيلية قسم العناية المركزة الطارئة والصيدلية في مستشفى الأهلي العربي (المعمداني) التابع للكنيسة الأنجليكانية في غزة".
وتابع: "على الرغم من صدور أوامر الإخلاء قبيل الهجوم، توفي طفل في الثالثة عشرة من عمره متأثرًا بجروح سابقة في الرأس أثناء عملية الإخلاء المستعجلة".
ولفت إلى أن مجلس الكنائس في القدس ينتظر المزيد من التقارير حول الأضرار الإضافية التي لحقت بالمستشفى، وكيف سيؤثر ذلك على قدرة الطاقم على مواصلة خدماتهم لمئات الجرحى والمصابين الذين يدخلون أبوابه يوميًا.
وأوضح أن المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) ليس أقدم مستشفى في غزة فحسب، إذ يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، بل هو أيضًا المستشفى المسيحي الوحيد في قطاع غزة.
وفي السياق، دانت أبرشية القدس الأسقفية في بيان لها الهجمات الصاروخية اليوم الأحد على المستشفى الأهلي العربي.
وقالت: "تفزع أبرشية القدس من قصف المستشفى الآن للمرة الخامسة منذ بداية الحرب عام 2023، وهذه المرة في صباح أحد الشعانين وبداية الأسبوع المقدس".
ودعت "جميع الحكومات والشعوب ذات النوايا الحسنة إلى التدخل لوقف جميع أنواع الاعتداءات على المؤسسات الطبية والإنسانية".
وفجر اليوم، استُهدف مبنى الاستقبال والطوارئ في المستشفى المعمداني بصاروخين، مما أدى إلى تدمير المبنى بالكامل، وإلحاق أضرار كبيرة بأقسام الاستقبال والمختبر والصيدلية. وقد أجبر عشرات الجرحى والمرضى والعاملين على مغادرة المستشفى وافتراش الشوارع المحيطة به.
وتُحيي الكنائس المسيحية التي تسير حسب التقويم الغربي في فلسطين اليوم أحد الشعانين، وهو العيد الذي يسبق أحد الفصح وذكرى دخول السيد المسيح (عليه الصلاة والسلام) إلى مدينة القدس.