أكدت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والمطالب التي أعلنها منذ ذلك الحين حديث البعض مؤخراً عن عودة العالم إلى عصر الإمبراطوريات. ساهم الغزو الروسي لأوكرانيا في إطلاق هذه التوقعات، وكثف أيضاً تحليلات مشابهة عن توسع الصين في جوارها بالإضافة إلى إعادة قراءة "مبادرة الحزام والطريق" من زوايا جديدة. ومع مطالبات ترامب الإقليمية، بدءاً بقناة بنما مروراً بغرينلاند وصولاً إلى غزة، يبدو أن القوى الثلاث تتجه، بدرجات وأشكال متفاوتة، إلى توسيع نفوذها بالقوة. وهذه إحدى سمات سلوك الإمبراطوريات.
من "مرساة" إلى "خطر"
"لقد سمعتم عن الليبرالية الجديدة والمحافظية الجديدة. الآن رحبوا بالإمبريالية الجديدة". صدر طلبُ الترحيب هذا عن الكاتب في صحيفة "فايننشال تايمز" جدعون راخمان يوم الاثنين. شبه راخمان سلوك القوى الثلاث بالقوى العظمى التي قسمت العالم إلى مناطق نفوذ في أواخر القرن التاسع عشر، لكنه حذّر من أن اقتطاع الأراضي هذا غير مستدام، إذ نجمت عنه حربان عالميتان في القرن العشرين.
بالنسبة إلى الغرب تحديداً، لا يمكن لمطالب ترامب أن تأتي في وقت أسوأ. وسط خوف أوروبا من إمكانية انفلاش الغزو الروسي لأوكرانيا إلى مناطق أوسع من القارة العجوز، يبدو القلق مبرراً. لم يعد عليها التعاطي مع احتمال تخلي الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا وحسب، بل أيضاً مع احتمال أن يضم ترامب غرينلاند بالإكراه. وأي اتفاق على تقاسم مناطق النفوذ بين القوى الثلاث سيترك أوروبا في الظلمة.
ذكر تقرير صادر عن اللجنة المنظمة لـ "مؤتمر ميونخ للأمن" أن مطالبات ترامب الإقليمية تعني أنه لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة بصفتها "مرساة للاستقرار، بل أصبحت خطراً يجب الوقاية منه". وبالرغم من أنه لم يتطرق إلى عودة حقبة الإمبراطوريات بالحرف، توقع التقرير عالماً حيث "يتنافس عدد أعظم من الدول على النفوذ" مما يؤدي إلى مستقبل "أكثر فوضوية بكثير" وحيث "تتعايش أو تتنافس أنظمة عدة". يشبه هكذا عالم بوضوح ذاك الذي ساد قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
بحسب أود آرنه وستاد، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة ييل، ثمة صعوبة في إعطاء تحديد واضح للإمبراطوريات. "لقد كانت الإمبراطورية بشكل أو بآخر معنا، وعلى الأرجح ستظل معنا"، كما كتب في مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية سنة 2023. حتى الدول التي عانت من الاستعمار وساهمت في إنشاء متّحدات إقليمية لحماية نفسها حملت في سلوكياتها بعض السمات الإمبراطورية، كما فعل الاتحاد الأفريقي حين تدخل عسكرياً ضد ستة من أعضائه، مبرراً ذلك بالحفاظ على الأعراف المشتركة.
"قوة إيجابية"
لا ينظر الجميع إلى الإمبراطوريات بصفتها قوة إكراهية محتلة للشعوب والدول-الأمم. ينظر البعض إليها باعتبارها ضامناً لتجانس المجتمعات. لم يستبعد غبريال إلفتيريو، نائب مدير في "مجلس الجغرافيا الاستراتيجية" ومقره لندن، أن تبدو حقبة الدولة الدستورية المعاصرة التي بدأت في القرن الثامن عشر انحرافاً موقتاً عن قاعدة التاريخ، وهي الإمبراطورية.
كتب إلفتيريو في تموز (يوليو) الماضي عن ميزتين لأشكال الحكم الإمبريالي المقترنة مع بعض التحديثات المعاصرة: استعادة تجانس المجتمعات وحل النزاعات الداخلية، وتمكن إمبراطورية رسمية في أوروبا وأميركا من التعامل مع الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين، والمعرضة لدول إمبراطورية مثل الصين وروسيا.
وفي ربيع 2014، دافع الكاتب روبرت كابلان عن إمبريالية مخففة للولايات المتحدة لأنها تضمن الاستقرار وتحمي للأقليات بشكل "أفضل من أي نظام آخر". لقد ساهمت الإمبراطورية البريطانية في نشر العولمة بصيغتها الأولية في القرنين التاسع عشر والعشرين ثم طورتها أميركا لاحقاً. "من دون البحرية الأميركية، لن يكون هناك عولمة، ولا دافوس. نقطة". وأضاف أنه "بالمقارنة مع الإمبريالية، الديموقراطية ظاهرة جديدة وغير مؤكدة".
اختلاف
حتى مع افتراض أن إيجابيات الإمبراطوريات أكثر من سلبياتها كما جادل كابلان، يواجه أي مدافع غربي عن هذه الظاهرة مشكلة التحول الكبير في الرؤية الليبرالية داخل واشنطن. كما رأى وستاد من جامعة ييل، تنظر الإمبراطورية الروسية إلى الوراء، وتتطلع الإمبراطورية الصينية إلى محاكاة النموذج الأميركي، لكن أميركا لم تختر وجهة إمبرياليتها الخاصة. وسأل: "هل ستحاول البلاد الإبقاء على هيمنتها العالمية الليبرالية (نموذج بايدن) أو ستصبح ملتزمة بتسلطية قومية جديدة (نموذج ترامب)؟"
بمجرد أن يكون هذا السؤال بشأن مستقبل النموذج الأميركي حاضراً، من المرجح أن يستحضر معه عدداً من علامات الاستفهام عن الفرضية التي تقول إنه يمكن للإمبراطوريات أن تكون قوة إيجابية حول العالم. وهذا بصرف النظر عن تعريف البعض الولايات المتحدة بأنها "إمبراطورية عبر الشراء". إذا كان الشراء يعبّر عادة عن رضا طرفين أو أكثر، ليس واضحاً كيف ستتصرف أميركا الترامبية في حال تم رفض طلبها شراء أرض غرينلاند مثلاً.
بعيداً من التصنيف، يبقى مجرد إمكانية العودة، أو على الأقل الحديث عن العودة إلى حقبة اعتُبرت محصورة في كتب التاريخ علامة بارزة بحد ذاتها. اللافت أكثر للنظر أنه كلما ابتعد العالم زمنياً عن لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي وجد نفسه أقرب إلى العصر الإمبراطوري. ما إذا كان العالم سيدخل فعلاً عصراً كهذا قضية أخرى. وإن تكن على الأغلب قضية مثيرة للقلق.