لم يكن أحد يتصور أن تتزعزع العلاقة بين الجمهورية الاسلامية الايرانية وسوريا إلى هذه الدرجة في أقل من شهر وأن تتجه نحو التصعيد والتدهور، بعدما كانت ايران وروسيا أهم حماة الحكومة السورية برئاسة بشار الأسد وداعميها. القضية السورية، مهمة للجمهورية الإسلامية لدرجة أن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، تحدث في غضون 10 أيام ثلاث مرات، في 11 و 17 و 22 كانون الأول/ديسمبر عن التطورات السورية. واشتدت حدة نبرته ومفرداته بشأن الحوادث الأخيرة في سوريا ، إذ عبر عن القلق والانزعاج من التطورات السورية، واتخذ مواقف واضحة بالكامل ضد الذين استولوا على الحكم في سوريا، ما أثار رد فعل قادة "هيئة تحرير الشام" فاتهم أحمد الشرع إيران ببث الفرقة ودعم حكومة بشار الأسد "الفاسدة". كما حذّر وزير الخارجية السوري أحمد الشيباني إيران من نشر الفوضى في سوريا.
لكن ماذا قال خامنئي حتى أثارت تصريحاته حفيظة الحكام الجدد في سوريا ضد إيران؟ إن المحاور الستة الرئيسية والمضمون الرئيسي لتصريحات خامنئي التي سترسم في الحقيقة السياسة المستقبلية لطهران تجاه دمشق، هي كالتالي:
1- إن أحداث سوريا هي حصيلة مخطط مشترك لأميركا وإسرائيل والتيار الحاكم في سوريا هو ألعوبة بأيديهما.
2- لا يوجد أمام سوريا سوى خيارين، إما الفوضى والانفلات الأمني وإما الاستبداد والدكتاتورية، وكلا الخيارين، يضران بالشعب السوري.
3- إن انهيار نظام حكم بشار الأسد لا يعني إضعاف تيار المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان واليمن، بل أن هذه التيارات ستكون لها اليد العليا في المنطقة مجددا.
4- إن تيار المقاومة السورية المكون من الشباب، سيثور قريبا ضد نظام الحكم السوري الجديد.
5- إن ايران ولمواجهة أميركا وإسرائيل، ليست بحاجة إلى وكلاء في المنطقة بما في ذلك سوريا، ومتى ما أرادت القيام بعمل ما، فإنها طليقة اليد في ذلك.
6- إن مشروع القضاء على إسرائيل لم يوضع جانباً على خلفية التطورات الأخيرة في المنطقة، وما زال مدرجاً على جدول أعمال المقاومة الإسلامية.
وتقف هذه السياسات بالضبط على طرف نقيض من الصورة التي تسعى "هيئة تحرير الشام" لرسمها عن أحداث سوريا ومستقبلها. وقد سعى أحمد الشرع وباقي قادة الهيئة، وفي ظل العمل الإعلامي الواسع والدعاية الهائلة خلال الشهر الأخير، للابتعاد عن ماضيهم كتيار متشدد وإرهابي، وإعطاء انطباع بأنهم معتدلون يريدون التعامل مع العالم. ويشكل عقد لقاءات مع الوفود الأجنبية والتأكيد أنهم لا ينوون خوض حرب مع اسرائيل، وحتى تغيير الملبس والتركيز على أنه يجب خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، اتخاذ التمهيدات اللازمة لصوغ الدستور وإجراء الانتخابات وإعطاء ضمانات بشأن أمن الأقليات الدينية والعرقية، أمثلة على هذه النشاطات التي تريد الإيحاء بأن مستقبل سوريا لا يقتصر على الخيارين اللذين توقعهما خامنئي، بل ثمة خيار ثالث يتمثل في إرساء الأمن والبدء بعملية إعادة بناء سوريا بالتعاون مع المجتمع الدولي. ويُقال إن ثمة حاجة لـ 400 مليار دولار لإعادة بناء البنى التحتية السورية التي دمرتها الحرب التي دامت 14 عاما في البلاد، كما أن هناك حاجة لنحو 10 مليارات دولار لتوفير الحد الأدنى من متطلبات أكثر من مليون نازح ولاجئ سوري في الداخل ودول الجوار.
وينتاب قادة "هيئة تحرير الشام" قلق كبير بشأن مستقبل سوريا، بما في ذلك الحكم الذاتي للمناطق الكردية في الشمال، واندلاع خلافات بين المجموعات الإسلامية العديدة ذات الخلفية الإرهابية في تقاسم السلطة وكذلك العجز في توفير الحاجات الأولية الرفاهية والأمن العام للشعب السوري. لكن ما يثير قلقهم أكثر من أي شيء آخر هو محاولة ايران للتدخل في الشأن المستقبلي لسوريا، بحيث يسهم ذلك في تحقيق تنبؤ خامنئي، وفي المقابل لا تتحقق وعودهم التي أطلقوها، وتذهب بالتالي أحلام "هيئة تحرير الشام" وأمنياتها أدراج الرياح.
وأي سيناريو سيتحقق على أرض الواقع في سوريا مستقبلا، يتوقف على عوامل وأسباب كثيرة، تضفي الجاذبية، وفي الوقت ذاته التعقيد على عملية رصد التطورات والأحداث في سوريا وتحليلها.