على عكس القوانين العالمية والمواثيق الدولية التي تكرم الأطباء وتمنحهم حرية الحركة والأمن وتجنبهم الاستهدافات في حالة الحروب، يعتبر الاحتلال الإسرائيلي أطباء قطاع غزة هدفاً مشروعاً يسعى لاقتلاعه وإنهاء حياته.
ويستخدم الاحتلال أساليب متعددة في حربه على الأطباء بقطاع غزة، من خلال الاغتيال المعنوي عبر التهديد والوعيد من خلال الاتصالات المتكررة لثنيه عن أداء واجبه تجاه مصابي القطاع للحفاظ على حياتهم.
كما يضغط الاحتلال على أطباء غزة من خلال الاغتيالات المحيطة بمعنى استهداف دائرة الأقارب لدى الأطباء بدءاً من البعيدة وصولاً للقريبة، قبل أن يكون الهدف المشروع بعد فشل المحاولات.
وتترافق الحرب على الأطباء بإعدام المنظومة الصحية من خلال إفراغ المستشفيات واستهدافها وتخريب الأقسام أو الأجهزة أو تدمير البنية التحتية لإيقافها عن العمل بشكل كامل أو جزئي.
وجسد مدير مستشفى كمال عدوان مثالاً حياً للطبيب الغزي الذي يواجه أساليب الاغتيال المعنوي والجسدي من قبل الاحتلال ويواصل أداء مهامه بأقل الإمكانات المتاحة وفي دائرة الخطر المميت للحفاظ على أي روح يمكنه إنقاذها مهما كلفه من ثمن.
*أبو صفية*
ولد مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية في شمال القطاع في 21 نوفمبر 1973، ويبلغ من العمر 51 عامًا، كما أنه استشاري طب الأطفال ومدير مجمع مستشفى كمال عدوان شمال القطاع وحاصل على البورد الفلسطيني في طب الأطفال، وهو ابن بلدة "حمامة" المهجرة، ويكنى بأبي إلياس.
منذ اليوم الأول لهذه الحرب، بقي صامداً يؤمن الرعاية الصحية لما يقارب 150 ألف مواطن هناك. ورغم الظروف العصيبة، ناشد الدكتور حسام العالم مراراً، وسعى لنقل صورة الوضع المأساوي الذي يعانيه المستشفى إلى شاشات التلفاز العالمية، آملًا في الحصول على الدعم الطبي من أدوية ومستلزمات طبية، إلا أن الاستجابة لم تكن كما تمنى.
*حصار المستشفى*
في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الفائت، بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات قصف غير مسبوقة لمخيم وبلدة جباليا ومناطق واسعة شمالي القطاع ضمن عملية عسكرية جديدة ممتدة حتى يومنا هذا، تخللها حصار لمستشفى كمال عدوان، بحجة وجود بنى تحتية للمقاومة.
الاحتلال حاصر المستشفى واعتقل كوادرها الطبية واستهدف الآخرين، إضافة إلى وقف الإمدادات والمساعدات الطبية في مسعى لقتل كل من يتواجد داخل المستشفى.
أبو صفية ظل صامداً شامخاً في المستشفى رغم قلة الإمكانات ومحدودية الكادر الطبي للحفاظ على من تبقى من المصابين داخل المستشفى إضافة للأطفال الذين يحتاجون للرعاية الخاصة.
أمر لم يعجب الاحتلال كثيراً مما شكله أبو صفية من نموذج الطبيب الصامد المقاتل أمام العالم، فبدأ ممارسة الاغتيال الجسدي عبر إطلاق النار على الكادر الطبي ليصاب أبو صفية بجراح وصفت بالمتوسطة إلى الخطيرة نتيجة النزيف الداخلي.
"دمائي ليست أغلى من دماء الفلسطينيين" عبارات نطق بها الدكتور أبو صفية وهو على سرير يتلقى العلاج من الأطباء عقب إصابته برصاص الاحتلال، ليكمل بعدها مسيرته في أداء مهامه لإنقاذ حياة المصابين الفلسطينيين.
كلمات وأفعال على الأرض أتت بثمار عكسية على الاحتلال الذي أراد طمس أيقونة أبو صفية من ذاكرة العالم والمتابعين له إعلامياً، ليمثل أيقونة الصمود الغزي أمام آلة الإجرام والقتل الإسرائيلي.
وجسد أبو صفية خلال عمله في مستشفى كمال عدوان نموذج الأب الحنون على الأطباء قبل المرضى، نتيجة أخلاقه الإنسانية في التعامل مما عزز من صمود تواجده داخل المستشفى رغم الحصار والقتل والتدمير والتجويع.
*والد الشهيد والجريح*
"الإنسان والطبيب والإعلامي والمقاوم" أبو صفية لم تثنه محاولات الاحتلال عبر الحصار والتفريغ والإصابة عن مواصلة عمله، فزاد الاحتلال من إجرامه للضغط عليه عبر اغتيال نجله إبراهيم وسبقه إصابة أحد أبنائه بإصابة خطيرة.
يقول مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية إن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل ابنه لأنه يقدم رسالة إنسانية، وإنه دفن ابنه بجوار جدار المستشفى.
ولم يتمالك أبو صفية نفسه، وانهمرت دموعه -في مداخلة مع الجزيرة مباشر- عند تذكُّر ابنه الشهيد، معبّرًا عن الألم العميق الذي يشعر به نتيجة فقدانه وسط الأحداث المؤلمة التي يشهدها شمال قطاع غزة.
وأردف قائلا "كل شيء فقدناه في هذه المستشفى حتى أبنائنا، حرقوا قلوبنا على المستشفى وقتلوا أطفالنا أمام أعيننا لأننا نحمل رسالة إنسانية، ونقوم بدفنهم بأيدينا".
*المقاتل أبو صفية*
وأعاد الاحتلال قبل 3 أيام حصاره لمستشفى كمال عدوان، بحجج واهية كسابقاتها والهدف الأساسي تدمير المنظومة الصحية واستهداف شخص المدير أبو صفية.
وعقب انتهاء العملية العسكرية في مستشفى كمال عدوان أعلن الاحتلال اعتقال مدير المستشفى وعشرات الأشخاص، ليضع حجة اعتقال أبو صفية بالاشتباه بأنه عنصر من عناصر حركة حماس.
تلك الحجة سبق أن وسم الاحتلال بها مدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية الذي اعتقله خلال مهمة نقل مصابين لجنوب غزة، بإشراف دولي.
والتقط المصور مهند المقيد الصورة الأخيرة للدكتور حسام أبو صفية، وهو يمشي بثوبه الأبيض وسط ركام مستشفى كمال عدوان الذي أحرقته آلة الحرب الإسرائيلية، وفي وجهه دبابات الاحتلال، وكتب عليها قائلا "رجل واحد ضد جيش بأكمله، هذا هو د.حسام أبو صفية".
المشهد الأخير للدكتور أبو صفية انتشر كالنار في الهشيم على منصات التواصل، فقد شبه مغردون الصورة بالحالة التي يعيشها القطاع منذ أكثر من عام من حرب الإبادة الإسرائيلية، وعلق أحدهم عليها قائلا "وحيدا ..مثل غزة".
وكتب الدكتور منير البرش مدير عام وزارة الصحة في غزة تعليقا على صورة الطبيب أبو صفية "بهذه الصورة، لخّص الدكتور حسام أبو صفية وضعنا بإيجاز: الطبيب الذي يقدم الخدمة الطبية الإنسانية لأبناء شعبه ولا يملك سوى معطفه الطبي، في مواجهة آلة القتل والتدمير والاحتلال".
وتعليقا على مشهد الدكتور أبو صفية في مواجهة دبابات الاحتلال قال مغردون "هكذا هم رجال غزة، اغتالوا ابنه وأصابوه وقصفوا مستشفاه وأحرقوه فلم يبرح المستشفى وعاد لمزاولة عمله في إنقاذ المرضى والجرحى، وها هو في المشهد الأخير قبل اعتقاله يمضي متسلحا بمعطفه الأبيض نحو دبابة مصفحة ومدججة بأحدث أسلحة الفتك والقتل، إنه الدكتور حسام أبو صفية جبل صمود آخر في غزة.
الماضي، والمتزامن مع حصار عسكري مطبق، تعرض المستشفى لعشرات من عمليات الاستهداف بالصواريخ والنيران حيث قال مسؤول صحي إن الجيش يعامله "كهدف عسكري".
وتسببت هذه العملية في خروج المنظومة الصحية عن الخدمة بشكل شبه كامل، وفق تصريحات مسؤولين حكوميين، فضلا عن توقف عمل جهاز الدفاع المدني ومركبات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني.