د. بروين حبيب
لم أكن أتوقع وأنا أترك بلداً ولدتُ فيه وكبرت ودرست وعملت، ولي فيه أهل وأصدقاء وذكريات، أعرفه جيداً وآلفُه وأنا على يقين من أنه يعرفني هو أيضاً، لم أكن أتوقع حين غادرته قبل أكثر من عقدين من الزمن بداعي العمل أن أجد ما يعوّضني عن الكلمة الفاتنة "الوطن"، ولكن أليس الأمر أشبه بتلك الصبية التي تترك بيت والديها إلى عش الزوجية، فكيف إن كانت الانتقال إلى بيت يدعى الإمارات حيث يصبح الحلم واقعاً، والخيال يمشي على قدمين، وقد سبق أن سجلت إحساسي نثراً في مقال لي بعنوان "عاشقة دبي" وشعراً في قصيدتي "في عشق الوصل"، هذا ما استشعرته وأنا أقرأ شهادات ستة عشر كاتباً عن تجاربهم على أرض الإمارات جمعها كتاب بعنوان "الإمارات بأعين عربية" حرّره الشيخ سلطان سعود القاسمي والبروفيسور عبد الخالق عبد الله وصدر عن دار"كُتّاب" للنشر، ولعل ما جاء في مقدمة المحرّرَين يختصر الربيع في قارورة عطر حين كتبا "الحضور العربيّ ضروري في المكوّن السكّاني الإماراتي، فهو رصيد ثقافيّ وحضاريّ لا يوازيه أيّ حضور سكّانيّ واجتماعيّ وثقافيّ آخر" فمدن مثل أبو ظبي ودبي والفجيرة والشارقة وكل زاوية من زوايا الإمارات، تتحول إلى كيان حيّ في عين الزائر العربي أصبح مقيماً، فيتداخل الماضي بالحاضر، والمكان بالزمان. ولا يصبح المكان مجرد خلفية للأحداث، بل شخصية بحد ذاته، تؤثر على طريقة تفكير الأفراد وتشكيل هويتهم، وهو ما جاء على لسان أكاديميين، وروائيات وروائيين، ومفكرين وفلاسفة، ولم يأت السرد الذي نقرأه في هذا الكتاب من فراغ، بل من ذاكرة قادمة من أماكن وثقافات متعددة، كل هؤلاء يقفون تحت سماء واحدة، ويساهمون في المشهد الحضاري الذي يشهده العالم، فلا تمسي المدن مجرد أماكن للسكن، بل هي مجموعة من القصص المتراكمة، حيث يترك كل فرد أثره، في الأدب والفن والسينما والعلم، ومن خلال المنصات التي يعمل من خلالها، سواء أكان في الإعلام، أم الهيئات والدوائر والمؤسسات الثقافية والتربوية، ما يجعل المدينة نصاً مفتوحاً يمكن قراءته من زوايا متعددة، فوجدت نفسي وأنا أقرأ فصول هذا الكتاب أردد ما قاله الشاعر الياباني باشو: «تحت أشجار الكرز/ لا يوجد غرباء/ كلنا أصدقاء!».
قراءة هذه الشهادات، تفتح أمامنا العلاقة مع فلسفة المكان، حيث تظهر فكرة الانتماء، البنوّة، الاستقرار، الأمان، السلام، إلى جانب السفر داخل المكان والمشاركة في البناء، والأهم الخيط الإنساني الذي لمس فيه كلّ هؤلاء، طيبة وتسامح أهل الإمارات، وانفتاح المؤسسات على احتواء النخب وتكريمهم من خلال عدد من الجوائز والمسابقات، ومنها: البوكر، العويس، الشارقة، والكثير غيرها، التي شكّلت للبعض عتبة مضيئة للتعرف إلى مدن الإمارات والمشاركة في التأسيس الثقافي. والقارئ يعثر بيسر على أجوبة لهذا الاحتضان الذي أصبح شاطئاً جديداً لكاتبي الشهادات في الإمارات، حيث يتغير معنى المنفى والغربة، فتمسي البلاد البيت والحضن والوطن، وتصبح مكان تحقق الأحلام إلى جانب تحقيق الأنا الإبداعية، وتشيع هذه الكيمياء في الأخذ والعطاء مع ثقافة المكان، كل واحد من هؤلاء يعطي هذا المكان من ماء عمره وزهرة شبابه وثقافته، في المقابل يصل إلى معنى البيت والوطن والتصالح مع الذات. هكذا تفعل الإمارات بكل مقيم.
شهادات كثيرة استوقفتني، ففي الكتاب تنوّعٌ في السرد الأكاديمي والأدبي والفلسفي، وبعض هذه الشهادات جاء من النضج، نضج الذات والأنا الإبداعي والفكري، مثل شهادة الدكتور الفيلسوف أحمد برقاوي، القادم من الأنا الفلسفي دائماً، ليدخل عتبات دولة الإمارات العربية المتحدة، تحدث عن زياراته للبلد قبل استقراره فيه قبل اثنتي عشرة سنة، فقد جاء هرباً من الوضع في سوريا بعدما شارك في ثورة الربيع العربي، وكتب عنها، بل بعدما باتت لغة الموت هي اللغة السائدة في بلده، فهنا نجد الفلسطيني الذي خبر فكرة اللجوء، والذي وُلد على ضفاف بردى في دمشق، ففي شهادته ملمح للذاكرة ونقد الذات، وكان اختياره للإمارات يعادل اختياره الحياة، بعدما حطّم الصورة النمطية لبلاد النفط. ويلتقط في شهادته موضوعاً خطيراً وهو خسارة سوريا لنخبها الثقافية، التي تعادل روح المجتمع، ثم يقترب من مدينة الشارقة المحطة الأولى في زيارته وإقامته، والتي سكن فيها وكان يصحو في الليالي الأولى يتفقد أولاده، وكأنه يحمل كابوس الحرب معه، وانتقل بعدها إلى دبي، ثم الفجيرة التي أسّس فيها بيت الفلسفة وأصبحت هناك مكتبة تحمل اسمه، مستذكراً دائماً القيم والعادات والطقوس الإماراتية.
شهادة أخرى غلب عليها الجانب الأكاديمي كتبها الدكتور محمد عياشي بعنوان "ثلاثة عقود في التعليم الجامعي في الإمارات"، يحكي فيها عن رحلة العطاء وتربية الأجيال، بل تأسيس أسرة وجيل آخر يواصل طريق استدامة الفكر والعلم والمعرفة والقيم. وهو ما نجده عند الدكتور إسماعيل البشري الذي يرى "أهم ما يميز الإمارات هو النظرة المستقبلية"، مثل الدكتور إسماعيل البشري، فيما كتب د. رضوان السيد عن السنع الإماراتي، وعن باني الإمارات الحديثة الشيخ زايد رحمه الله. وإضافة إلى شهادات الأكاديميين كان لشهادة الأدباء نكهتها الخاصة، فالروائي الأردني عامر طهبوب يرى الإمارات بلد الفرص وبلد العمل والتعب والركض، والسياقة الطويلة، ويؤنسنها حين يكتب عن مدنها "مدن تسكنها، ومدن تسكنك، عندما تحب مدينة عليك أن تشرب قهوتها، لا أن تفتح لها الفنجان بل أن تقرأ كفّها، ليس لأنك تجيد قراءة الكف، بل لأنك تمسك يدها وتسبر أغوارها، وتصل إلى قلبها" فتحولت المدينة من مجرد أحجار إلى معشوقة تستحق الحب كله.
استوقفني في كتاب "الإمارات بأعين عربية" أن نصف شهادات الكتّاب كانت للنساء، فللمرأة حضورها المضيء والمبدع على هذه الأرض، يكفي أن نقرأ عناوين بعض الشهادات، لنساء مبدعات يُقمن على أرض الإمارات، ونتعرّف إلى ما تحمله من إشارات، فالدكتورة ريم طارق متولي كتبت: "أنا العراقية ابنة الإمارات"، وبالتأكيد فإن هذا يفتح على الانتماء، والبنوة لهذه الأرض، وتظهر الأنا في هذا الاندغام الجميل بين ثقافتين، فيما تناولت الإعلامية منتهى الرمحي جانب الأمان في هذا البلد الطيب في شهادتها "وجدت سعادتي في الإمارات" وهي شهادة كتبت بلغة سردية تقترب من السيرة الذاتية، لهذا تلتفت قليلاً إلى بلدها الأردن، لتشير إلى أنها امرأة جاءت من مجتمع محافظ، وتعيش الآن في دبي مع بناتها الثلاث، وتقول في هذه الشهادة: "إذا سئلت عن كلمة السّر التي ميزت تنقلاتنا وكل رحلاتنا خلال فترة إقامتنا في دبي، والتي تخطت العشرين عاماً، فهي دون منازع الأمن، كنا أربع إناث، بناتي الثلاث وأنا، لا أذكر أن شكت أيّ منهن من أيّ حادث".
وكتبت الروائية الليبية نجوى بن نشوان ورقتها بلغة ساخرة وذكية عنونتها بـ"دع السفن تمرّ"، بكل ما يحمله هذا العنوان من إشارات السفر، والفعل، وقيادة الرحلة نحو شواطئ الأمان، بعيداً عن أرض ليبيا المشتعلة بالحروب والصراعات. في شهادة نجوى مقارنة بين مدن ذكية كدبي، ومدن لا تزال تكتب أسماء الناس على الجوازات بخط اليد، وما يسببه ذلك من الإحراجات في المطارات حتى الغربية منها، فيما تحدث المفارقة في مطار أبو ظبي الذي تدخله أول مرة تقول "حين دخلت المطار شعرت بالاختلاف الكبير في الزمان والمكان، تفحصتُ الإنسان الأوّل الذي أراه من كوكب الإمارات، بينما يقلّب جواز سفري الأشبه بدفتر الدَّين في دكاكين حارتنا القديمة، فالإنكليزية المكتوبة في جوازي أسوأ من روشتات الأطباء". الجميل هذه المرة أنها مرت بأمان، ولم يعرقل الجواز دخولها. وفي هذا السرد الشفاف المليء بالمرارة، تتحدث عن أهمية الأدب: "شكرت الأدب الذي نقلني إلى موضع آخر، لقد تبيّن أن له فائدة لم تتطرق إليها ورش الكتابة، إنّه مسكّن موضعي للإحساس المتكتل بالمرارة".
الخيط الساحر في شهادات النساء، هو الأمومة، وعلاقة المرأة بأبنائها، الاقتراب من مفهوم العائلة والبيت، وهنا تمسي العائلة أيضاً وطناً، ولكن تحت سماء الإمارات، فالروائية عفاف البطاينة في شهادتها التي أشارت فيها إلى قدومها إلى الإمارات برفقة طفليها، تنظر إلى المستقبل مشيرة إلى أهمية البيئة التعليمية المتسامحة في الإمارات، وتتساءل عن مستقبل أطفالها: "حين يكبرون ويأخذون أدوارهم التي هيأتها لهم الحياة، ماذا سيقولون عن طفولتهم المتطورة والهانئة جداً هنا، الأجيال التي تترعرع في النعيم وتعتاد التطور التكنولوجي والمدني ستكون أجيالاً مختلفة بفارق معرفي كبير"، تساؤلات كثيرة أخرى تطرحها، وتصب في سؤال جدوى الكتابة في مدن البزنس والعمل، "ماذا يفعل كاتب في مدينة لا تحتاج إلى كاتب، هل سيكتب قوائم الطعام في المطاعم والمقاهي، هل سيكتب كتيبات منتجات المصانع، ماذا يفعل الكاتب في مدينة المال والأعمال؟" والجواب عن هذه الأسئلة هيّن، فإن كانت الإمارات منحت مبدعين إقامات ذهبية على أرضها موفرة لهم سبل العيش الكريم فلا عذر لمن لا يرى الإبداع إلا وليد التعاسة.
أما الدكتورة مايا أبو ظهر، فقد أتت الإمارات وهي عروس، وصنعت تجاربها هنا، تكلمت بحرية عن تفاصيل حياتية توّجت بالدراسة والعمل، سيدة تطهو الطعام لزوجها، تتواصل مع أهلها وتتابع دراستها وتخصصها إلى أن باتت أكاديمية في الجامعة، وفي شهادتها تقول: "الإمارات صارت بيتي"، وهذا نراه عند سوزان الهوبي، ورحلة عائلتها من الشتات إلى الاستقرار، وهنا تمسي الإمارات الفضاء الثقافي للطموح والحياة معاً.
في هذا الكتاب عن هذه الدولة التي تحولت إلى مهوى القلوب ومطمح الأنفس والتي تحولت إلى قارة تعيش على أرضها بسلام وأمان مئتا جنسية، نجد أجمل حكايات النجاح خطتها أقلام تقول لنا "على أرض الإمارات ما يستحق الحياة"، وكم من تجارب كثيرة لمبدعين سكنوا الإمارات العربية المتحدة ما زلنا ننتظر قراءة شهاداتهم في أجزاء أخرى من هذا الكتاب لم لا؟ أليس هذا البلد تطبيقاً عملياً لحكمة علي بن أبي طالب "ليس بلد أحقّ بك من بلد، خير البلاد ما حملك"؟!