يذهب بعضهم، وهم ليسوا قلة، إلى أن الرواية هي فن العصر وديوان العرب الجديد. يأتي ذلك الاعتقاد، باعتبار أن الرواية هي الأقدر على ملامسة حركة الحياة، وتمثيل أحداثها وصراعاتها، وتشكيل شخصياتها المتنوعة والمتباينة في رؤاها وأهدافها ومساعيها.
يضاف إلى ذلك، من جهة أخرى، أن الرواية هي الأكثر تداولاً ورواجاً، على المستوى التسويقي، في قطاعات المجتمع وفئاته وشرائحه المختلفة، والأعلى مقروئية بين الأنساق الأدبية جميعاً، التقليدية والمستجدة على السواء.
وفي سياق هذا الحراك الروائي العربي اللافت خلال الآونة الأخيرة، فإن مما لا شك فيه أن الرواية التاريخية، على وجه الخصوص، هي سيدة المشهد الروائي المعاصر بتمظهراته الكثيرة، وتجلياته المتعددة.
نموذج مغاير
الرواية العربية التاريخية، وبتعبير أدق، الرواية المستندة إلى خلفيات تاريخية، في نماذجها الناضجة والمتحققة والمتفوقة، هي تلك التي تعي جيّداً طبيعتها وجوهرها، كلون إبداعي متفرد، أو ضرب أدبي مغاير في ملامحه وسماته.

'ليالي إيزيس كوبيا' لواسيني الأعرج.
تستلهم الرواية المستندة إلى خلفيات تاريخية معطيات التاريخ وروافده ووقائعه وأبطاله وشخصياته، ولكن من دون الوقوع في فخ المحاكاة الحرفية، أو التسجيل التوثيقي، أو الاكتفاء بالتصوير الفوتوغرافي الأمين لما يجري على الأرض "كما هو".
هذا هو الفرق المؤكد بين الروائي المجنّح المنفلت والمؤرخ المنضبط الحيادي، فالروائي لا يقف عند حد المعلومات والأخبار، وإنما ينشد الخيال في المقام الأول في تصويره حقبة من الحقب أو حدثاً من الأحداث الجسام، كما أن من حقه تخليق شخصيات خيالية ضمن النسيج الروائي الكلي.
وهو، في خوضه هذه المغامرة الملتبسة، التي لا تغفل في طياتها الإسقاط على الواقع، يتحلى بأسلوب إبداعي مرن سلس، يعتمد على ما حفظه التاريخ في سجلاته، من غير هوىً فج أو ميل منجرف إلى المغالطات المغرضة والموجهة، ومن غير تقيد، في الوقت نفسه، بتفاصيل هذه الوقائع التاريخية، ولا التزام بيوميات الشخصيات المستدعاة، ومصائرها الموثقة الثابتة.

'عزازيل' ليوسف زيدان.
وهكذا، تقدّم الرواية ذات الخلفية التاريخية وجوه المعرفة من خلال تشكيلات جمالية ابتكارية، منحرفة عن الرؤية الوحيدة الصارمة المحددة سلفاً. وتسمح الرواية للمتلقي بالعبور إلى الأحداث الماضوية والشخصيات التاريخية الحقيقية عبر نوافذ فضفاضة، ليعيد اكتشاف الأحداث والشخصيات بنفسه.
وليس ضروريّاً بطبيعة الحال أن يتفق المتلقي مع الآراء السابقة الجاهزة، في التصورات الجديدة الخاصة به، التي يتوصل إليها من خلال قراءته العمل الروائي المحمّل بأضواء التاريخ وظلاله المتدرجة.
كما أنه ليس لزاماً أيضاً أن ينساق المتلقي، في قراءته الأحداث والشخصيات التاريخية، إلى وجهة نظر المؤلف الروائي نفسه، الذي فتح هذا الباب الشيق المثير على مصراعيه للتعددية المثمرة، والجدلية الإيجابية.
صدارة الساحة
بالنظر إلى حضور الرواية القائمة على خلفية تاريخية، كمّاً وكيفاً، في الساحة العربية الراهنة، وبالالتفات إلى وجودها الدائم في قوائم الجوائز العربية المرموقة، ومنها: الجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر"، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة نجيب محفوظ للأدب التي يمنحها قسم النشر في الجامعة الأميركية في القاهرة، وغيرها من الجوائز ومنصات التكريم والمحافل الكبرى، تبدو الرواية التاريخية العربية ذات مكانة خاصة ملموسة بالتأكيد، الأمر الذي يجعلها في صدارة المشهد الآني.

'كليوباترا الكنعانية' لصبحي فحماوي.
هذا الموقع المتميز، بل الاستثنائي، للرواية العربية المستندة إلى خلفية تاريخية يطرح تساؤلاً ملحّاً حول أسبابه ومبرراته، وهي في الحقيقة جُملة من الاعتبارات والحيثيات المتشابكة التي تتضافر معاً لتصب في مصلحة هذا اللون الإبداعي المستساغ من النقاد والقرّاء على السواء.
من أبرز هذه الأسباب والاعتبارات، على سبيل المثال، أن الرواية المستندة إلى خلفية تاريخية أكثر تحرراً وأشدّ جرأة في اشتباكها مع الواقع، وتعريته، وفضحه، وكشف أزماته، وتفجير قضاياه المصيرية والمهمّة من دون أي سقف من المحاذير والمحظورات الرقابية، الدينية والسياسية والمجتمعية والطائفية والفئوية والجندرية وغيرها.
تستوعب الرواية التاريخية بطلاقة وأريحية كل ما يثيره المبدعون من انتقادات للأوضاع الإنسانية والحقوقية المحيطة بهم، والظروف والملابسات البغيضة والمسيئة في عمومها، وذلك بأساليب غير مباشرة، من خلال الممر التاريخي الآمن، والإسقاط المراوغ على العصر، واتخاذ أقنعة ورموز دالة. ومثل هذه التقنية ترفع الحرج عنهم تماماً، وتعصمهم من احتمالات التضييق والرقابة والمساءلة وربما الملاحقة، لاسيما في ظل تقلص هامش الحريات في معظم الأقطار العربية.

'ناقة صالحة' لسعود السنعوسي.
تتيح الرواية التاريخية أيضاً، أكثر من سواها من الثيمات الروائية والإبداعية، المجال واسعاً لخلخلة المقدّس التاريخي، وإعادة صوغه بحريّة من منظور آخر، ينتصر؛ ربما، للعاديين والبسطاء والمهمّشين والمنبوذين، ويجرّد منظومة السلطة من انفرادها برواية التاريخ وفق نظرتها الأحادية المتعالية وربما المغلوطة التي تخدم مصلحتها. ومن ثم، تبدو الرواية التاريخية في كثير من تجسداتها كرواية بشر وليست رواية حكّام وأمراء وسلاطين.
تُمكّن الرواية المستندة إلى خلفية تاريخية مؤلفيها أيضاً من العمل على محاولة تغيير الواقع والانتصار للحركات والهبّات الشعبية في مواجهة الأنظمة، وذلك باستيحاء حركات التغيير والثورات الجماهيرية عبر التاريخ. ولعل مناخ الثورات العربية، وما سبقها وأعقبها من أحداث، خلال القرن الحادي والعشرين، مثّل بيئة مواتية لانتشار الروايات التاريخية الداعمة لصوت الشارع الغاضب.
ويشكّل البُعد التاريخي في عمل روائي متخيّل عاملاً إضافيّاً للتشويق والإثارة والإدهاش والمتعة، إذ يميل المتلقي عادة إلى تتبع الأحداث والشخصيات التاريخية أكثر من غيرها، وعقد مقارنة تفصيلية بين الواقع الحقيقي والواقع الروائي الموازي.

'ابنة الديكتاتور' لمصطفى عبيد.
ولعله لا يخفى أيضاً أن من عوامل ذيوع الروايات المنبنية على ركائز تاريخية، توجّه نسبة غير هينة من الكتّاب العرب إلى هذا النسق، ربما للمرة الأولى في مسيرتهم الإبداعية، أملاً في الحضور على منصات التتويج بالجوائز العربية البارزة التي تحتفي كثيراً بالرواية التاريخية، أو افتتاناً من البعض بما يرونه ظاهرة برّاقة أو موضة أدبية تستدعي التجريب من وجهة نظرهم، حتى وإن لم تكن هناك ضرورة فنية حقيقية أو استعداد جاد في بعض الأحيان وراء ذلك التوجه إلى التاريخ بعيون أدبية.
عناوين وتجارب
بقيت إشارة موجزة، في حدود هذا المقام الضيق، إلى عدد من العناوين والتجارب الواعية في إطار الروايات الجادة ذات الخلفية التاريخية، الرائجة في الوقت نفسه، والتي تحتفي بالإبداع والتخييل والتخليق كقيمة جمالية مجردة، قبل نهلها من المعين التاريخي المتاح للمبدعين وللباحثين على السواء.
في هذا الصدد، على سبيل المثال لا الحصر، يسرد الروائي المصري صنع الله إبراهيم في روايته "1970" (دار الثقافة الجديدة)، بتصرّف إبداعي كبير، تفاصيل قصة العام الذي غاب فيه الزعيم جمال عبد الناصر. ويستحضر المؤلف شخصية ناصر، ناسجاً من خيوط التاريخ دراما تخييلية توازي الدراما المثيرة التي عاشتها الأمة العربية على أرض الواقع على مدار عشرين عاماً، وتتقاطع معها.

'شوق الدرويش' لحمور زيادة.
ويستحضر الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته "ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" (دار الآداب) شخصية الكاتبة مي زيادة، ومذكراتها الذاتية، ليطرح متخيّلاً روائيّاً يعيد من خلاله تجسيد مأساة مي زيادة، خصوصاً في الفترة الأقسى التي قضتها في عزلتها في مستشفى العصفورية، حيث سيقت ظلماً إلى المستشفى من أجل الاستيلاء على ميراثها، بينما تخلى عنها الأقربون والأصدقاء جميعاً.
أما المصري يوسف زيدان في روايته "عزازيل" (دار الشروق)، فيعود به التاريخ إلى القرن الخامس الميلادي، متنقلاً بين جنوب مصر والإسكندرية وشمال سوريا، في أعقاب تبني الإمبراطورية الرومانية العقيدة المسيحية، وما بعد هذه الفترة من صراعات مذهبية كنسية. وينسج المؤلف من خلال سيرة الراهب المسيحي المصري هيبا، تخييلاً روائيّاً أثار كثيراً من الجدل لتناوله بجرأة بعض الخلافات اللاهوتية والممارسات المسيحية ضد الوثنيين المصريين في ذلك الوقت.
وتتسع دائرة الروايات النابهة، التي تستوحي التاريخ ولا تقف عند حدوده الضيقة، فمنها أيضاً رواية "كليوباترا الكنعانية" (دار العين) للأردني الفلسطيني صبحي فحماوي، التي يعيد فيها المؤلف تشكيل ملكة مصر الفرعونية الشهيرة وقد انحدرت من أصول كنعانية، إلى جانب إعادة اكتشافها كإنسانة عادية، تمارس تفاصيل حياتها اليومية.

ومن التجارب المهمة الأخرى في مضمار الروايات التاريخية، رواية "ناقة صالحة" للكويتي سعود السنعوسي، وثلاثيته الروائية الضخمة "أسفار مدينة الطين" (منشورات مولاف ودار كلمات ومكتبة تنمية)، ورواية "ابنة الديكتاتور" للمصري مصطفى عبيد (الدار المصرية اللبنانية)، ورواية "شوق الدرويش" للسوداني حمور زيادة (دار العين)، ورواية "موت صغير" للسعودي محمد حسن علوان (دار الساقي)، وغيرها.