في مساء الخميس، أعلن الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، عن استشهاد قائد هيئة الأركان محمد الضيف، الشخصية التي شغلت الاحتلال الإسرائيلي لعقود طويلة، وأرعبته بعمليات نوعية وتخطيط استراتيجي متميز، كان رجل الظل، كما أطلق عليه الإعلام الإسرائيلي، قائدًا من طراز فريد، لم يترك خلفه سوى الخوف في قلوب قادة العدو، والإرث الجهادي الذي بات مدرسة متكاملة في فن المقاومة.
ولد محمد المصري، الذي اشتهر بلقب محمد الضيف، في عام 1965 لعائلة فلسطينية لاجئة من بلدة القبيبة، واستقرت عائلته في مخيم خانيونس جنوبي قطاع غزة. منذ صغره، تشرب الضيف معاني الكفاح، وكان من أوائل المنخرطين في صفوف المقاومة الفلسطينية، حيث برز في الانتفاضة الأولى عام 1987، انضم إلى حركة حماس في بداياتها، وكان له دور محوري في تشكيل الذراع العسكرية للحركة، كتائب الشهيد عز الدين القسام.
رجل بألف قائد.. إرث لا يموت
على مدار أكثر من ثلاثة عقود، قاد محمد الضيف كتائب القسام نحو تطوير تكتيكات قتالية غير مسبوقة، معتمدًا على الابتكار والسرية المطلقة، فهو من أبرز العقول التي طورت شبكات الأنفاق، والصواريخ، وعمليات الاقتحام الاستراتيجية، مما جعل المقاومة الفلسطينية قوة لا يستهان بها، وخلال سنوات قيادته، حاول الاحتلال الإسرائيلي اغتياله سبع مرات، لكنه نجا في كل مرة، مما عزز أسطورته وأثار جنون أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وكان الضيف شخصية غامضة، حيث لم تظهر له أي صورة واضحة لأكثر من 23 عامًا، ما جعل الاحتلال يعيش في هاجس دائم من ظهوره المباغت بعملية جديدة، قاد الضيف معارك كبرى، كان أبرزها:
عملية "الوهم المتبدد" (2006): التي أسفرت عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
معركة "حجارة السجيل" (2012): التي جاءت ردًا على اغتيال نائبه أحمد الجعبري، حيث أمر الضيف بقصف تل أبيب لأول مرة في تاريخ المقاومة.
معركة "العصف المأكول" (2014): التي كشفت عن قوة كتائب القسام، وظهور سلاح الأنفاق بقوة.
معركة "سيف القدس" (2021): حيث نجح الضيف في نقل المقاومة من موقع الدفاع إلى الهجوم، وضرب تل أبيب والقدس رداً على اعتداءات الاحتلال في حي الشيخ جراح.
معركة "طوفان الأقصى" (2023): والتي اعتُبرت من أعظم العمليات في تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث قاد الضيف هجومًا خاطفًا غير مسبوق، أربك الاحتلال وأحدث صدمة سياسية وعسكرية في "إسرائيل".
إسرائيل والاغتيالات الفاشلة: هل انتهى تأثير الضيف؟
منذ إعلان الاحتلال عن اغتيال محمد الضيف، سادت حالة من الجدل في الأوساط العسكرية والسياسية في "إسرائيل"، حيث تساءل الخبراء: هل حققت إسرائيل هدفها أخيرًا؟. يرى الخبير في الشؤون الإسرائيلية مهند مصطفى أن عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل لم تغير من الواقع الاستراتيجي، ولم تنجح في تفكيك كتائب القسام، فبرغم فقدان الضيف، ظلت المقاومة متماسكة، وأثبتت قدرتها على إدارة المعركة حتى اللحظة الأخيرة.
أما الباحث في الشأن السياسي والإستراتيجي سعيد زياد، فقد أشار إلى أن المعارك العظيمة هي التي يستشهد فيها القادة العظام.
وأوضح أن الضيف لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان رمزًا للمقاومة، واستشهد بعدما أرسى نهجًا قتاليًا لن يتغير برحيله، إذ إنه ترك وراءه مدرسة عسكرية متكاملة، قادرة على توليد قادة جدد يحملون الراية.
فكرة لا تُهزم.. واستشهاد القادة لا يعني النهاية
الكاتب والمحلل السياسي أحمد الحيلة أكد أن حماس تمتلك قدرة استثنائية على تعويض قادتها، مشيرًا إلى أن الحركة لم تتأثر باغتيال صلاح شحادة، يحيى عياش، عماد عقل، أحمد الجعبري، رائد العطار، وغيرهم من القادة العظام.
وأضاف أن الأيام الأخيرة من معركة طوفان الأقصى أظهرت مدى تماسك وتطور كتائب القسام، وأن خسارة القادة لم تؤثر على أداء المقاومة.
بدوره، شدد أستاذ الشريعة الإسلامية د. أحمد الشحروري على أن استشهاد القائد الضيف يمثل نصرًا استثنائيًا للمقاومة، حيث قال: "النصر الذي تحقق في غزة وفلسطين كتبه قادة المقاومة بدمائهم، وهم الذين تمنوا الشهادة فنالوها مقبلين غير مدبرين، تاركين خلفهم أمة لن تهزم أبدًا."
الضيف.. إرث وحضور لا ينتهي
رغم استشهاد محمد الضيف، إلا أن تأثيره سيبقى خالدًا في تاريخ المقاومة، فهو القائد الذي خطط ونفذ عشرات العمليات التي غيرت مجرى الصراع مع الاحتلال، وبنى استراتيجية عسكرية جعلت كتائب القسام ذات مكانة قوية في المنطقة.
لم يكن الضيف مجرد قائد عسكري، بل كان أسطورة فلسطينية، وقائدًا لا يهاب الموت، عاش في الظل لكنه كان دائم الحضور في معارك العزة والكرامة، استشهاده لم يكن نهاية المعركة، بل بداية لمرحلة جديدة من الصمود والمقاومة.
وكما قال الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة: "القائد يخلفه ألف قائد"، رحل محمد الضيف جسدًا، لكنه ترك وراءه مقاومة لا تُهزم، وأجيالًا ستواصل طريقه حتى تحرير فلسطين.