داعش ، اميركا ، اسرائيل ، القنيطرة
على رغم اختلاف مضامين تصريحات كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية حيال الإدارة الجديدة في سوريا، إذ لم تخف الأولى استياءها من طابعها الإسلامي المتشدد، بحسب وصف مسؤوليها، بينما حرصت الأخرى على إبداء مرونة نسبية في التعاطي معها، جاءت الغارة الإسرائيلية التي استهدفت رتلاً لجهاز الأمن العام في القنيطرة، إلى جانب الغارة الأميركية التي استهدفت قيادياً سابقاً في جماعة "جند الأقصى" الإسلامية المتشددة، بمثابة رسالتين واضحتين من تل أبيب وواشنطن مفادها أن قيام حكم جديد في سوريا لن يمنع هاتين الدولتين من متابعة نشاطهما السابق في الأجواء السورية، وأنهما لن تتخليا عن حرية التحرك ضد ما يهدد أمن كلٍّ منهما.
واستهدفت، صباح الأربعاء، طائرة مسيرة أميركية بأربعة صواريخ دراجة نارية على طريق مخيم القلعة شمال مدينة سرمدا. وتبين أن أحد القتيلين هو محمد فياض الذيبان القيادي السابق في جماعة "جند الأقصى"، وثمة معلومات أنه عمل لمصلحة تنظيم "داعش" في الرقة قبل أن يعود إلى سراقب شرق إدلب، ولم تتضح طبيعة العلاقة التي ربطته بـ"هيئة تحرير الشام" خلال السنوات الماضية، لكن ما يعرف عنه أنه اعتزل العمل المسلح بسبب بتر ساقه في وقت سابق.
لكن أهمية الغارة لا تؤخذ فقط من الشخصية المستهدفة، بل من توقيتها ومكان حدوثها. فهي أول استهداف أميركي لشخصية قيادية في تنظيم إسلامي متشدد منذ سقوط النظام السوري وتسلم "هيئة تحرير الشام" ممثلة بقائدها أحمد الشرع (الجولاني) زمام السلطة في دمشق. واللافت في هذه الغارة أيضاً أنها حدثت في إدلب، وتحديداً في سراقب، أي في المعقل السابق الذي خرجت منه "هيئة تحرير الشام" لتسيطر على مناطق النظام السوري السابق.
ومن شأن هذه الغارة أن تسبب إحراجاً كبيراً للإدارة الجديدة في سوريا، مهما حاولت التكتم عنه، لأنها تدل مباشرة ومن دون مواربة، إلى وجود شخصيات مصنّفة إرهابية لاتزال مطلوبة لدى الولايات المتحدة الأميركية في إدلب، كما دلّت الغارة الأميركية مطلع كانون الاول (ديسمبر) الماضي، أي بالتزامن مع تقدم عملية "ردع العدوان"، إلى وجود هذه العينات الإرهابية في الرقة.
ويعتبر هذا الملف من أكثر الملفات تعقيداً التي تواجه الإدارة الجديدة، بخاصة بعد الانتقادات الدولية والمحلية التي طاولتها بسبب تعيينها شخصيات أجنبية مصنّفة على قائمة الأمم المتحدة وعلى قوائم بلدانها الأصلية، على أنها إرهابية ومطلوبة للعدالة، بل ان بعضها صدرت في حقه أحكام بالإعدام.
وسبق للولايات المتحدة، منذ عام 2017، أن نفذت عشرات الغارات في مناطق مختلفة من سوريا لاستهداف شخصيات قيادية في "داعش" أو "حراس الدين" أو "أنصار الإسلام" وغيرها من التنظيمات المتطرفة، لكن النسبة العليا من هذه الغارات تركزت في محافظة إدلب.
وقد وجهت اتهامات إلى قيادة "هيئة تحرير الشام" بالتنسيق مع التحالف الدولي للتخلص من خصومها في إدلب، عبر تسريب إحداثيات مواقع وجودهم إلى أجهزة استخبارات خارجية. وجاء افتضاح ملف العمالة للخارج الذي انفجر في صفوف الهيئة في آب (أغسطس) الماضي ليؤكد وجود خلايا من ضمنها كانت تتعاون مع استخبارات خارجية عموماً وأميركية خصوصاً.
ولكن ما كان مقبولاً عندما كانت الهيئة في صفوف المعارضة وتقاتل لإسقاط نظام الأسد، لم يعد هكذا بعد ما أسقطت النظام وحلت مكانه، إذ أصبحت هي الدولة، وبالتالي فإن استمرار واشنطن في تنفيذ غارات ضد أهداف ضمن الأراضي السورية من شأنه أن يرسم الكثير من علامات الاستفهام، بغض النظر عما إذا كانت الغارات تجري بالتنسيق مع الإدارة الجديدة أو من دون تنسيق معها، لأنه في حال وجود تنسيق سيدل ذلك على عجز الإدارة الجديدة عن التعامل مع بعض الأهداف في الداخل. وفي حال عدم التنسيق، ستكون دلالة الحدث أكثر خطورة لأنه يشير إلى عدم ثقة أو عدم رغبة من واشنطن في مشاركة الإدارة الجديدة التعاطي مع هذا الملف الأمني المعقد، إذ لا يعرف أحد على وجه الدقة من هي الشخصيات الموضوعة على قوائم الاستهداف الأميركي.
وقبل ساعات من الغارات الأميركية، استهدفت طائرات إسرائيلية رتلاً لجهاز الأمن العام التابع لـ"هيئة تحرير الشام" (ليس هو جهاز الاستخبارات الجديد) في قرية غدير البستان على الحدود الإدارية بين درعا والقنيطرة، وأسفرت الغارة عن مقتل مختار القرية وعنصرين من الهيئة.
وتشير الغارة الإسرائيلية إلى وجود خطوط حمر لدى تل أبيب لن تسمح للإدارة الجديدة وأجهزتها بتجاوزها. ومحافظة القنيطرة من أبرز المناطق السورية التي توغلت فيها الدبابات الإسرائيلية خلال الأسابيع الماضية. كما قامت قوات إسرائيلية بجمع ما يفوق 3300 قطعة سلاح من قرى القنيطرة بينها دبابات وعربات نقل جند وصواريخ، في تجاهل تام للجهود التي تبذلها الإدارة الجديدة لجمع السلاح من عموم أراضي السورية.
وفي أعقاب اجتماعه برئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، أكد أحمد الشرع عدم وجود ذريعة لإسرائيل للقيام بما سماه "التقدم" في الأراضي السورية بعد انسحاب الميليشيات الإيرانية.
ومنذ سقوط النظام، توغلت قوات إسرائيلية في محافظة القنيطرة متجاوزة المنطقة العازلة، لكنها لم تذكر أن الهدف من هذه التوغلات أو من الغارات الجوية التي تنفذها هو ملاحقة الميليشيات الإيرانية.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي وصف الإدارة الجديدة في سوريا بأنها "عصابة إرهابية"، كما حذر نظراءه الغربيين من تجاهل وصول تنظيم إسلامي متشدد إلى حكم سوريا. وهو ما يجعل أهداف التوغلات الإسرائيلية واضحة للعيان.
ويخشى مراقبون سوريون من احتمال تصاعد التدخل الإسرائيلي في الشأن السوري اضطراداً مع تراجع ثقة تل أبيب بالهندسة التي يجري العمل عليها لإعادة هيكلة نظام الحكم في هذا البلد. كما أن لدى تل أبيب غاية ثانية من التدخل في سوريا، وهي عدم ترك تركيا تستفرد بالهيمنة عليها كي لا تواجه المحذورات التي واجهتها إبان هيمنة إيران.