بصوتٍ أجش أكبتَه الغضبُ وعسرُ الحال، يشكو المواطن محمود سالم (*)، انتظاره الممتد لساعاتٍ طوال في طوابير توزيع المساعدات الإغاثية التي تحوي عبوات حليب الأطفال؛ إذ ينتهي الدور عند حدٍ معين من المستفيدين دون أن يحصل أكثرهم على عبوة واحدة.
ويلجأ ميسورو الحال من المواطنين لشراء الحليب من الأسواق بأسعارٍ غير معقولة تتزايد من وقت لأخر، في حين يعجز ما أكثر من 90% من الأهالي عن الشراء بفعل الفقر المدقع الذي اشتدت وطأته خلال الحرب على قطاع غزة عمومًا، وشح كمية المساعدات الواصلة إلى شماله خصوصًا.
السيدة هديل شملخ (22 عامًا)، تقاسي المشكلة ذاتها مع رضيعها أنس (8 أشهر). تقول شملخ معبّرةً عن ضيق حالها وقلة حيلتها: "يصل سعر العبوة الصغيرة نحو 16 دولار، فيما تتضاعف ثمن الكبيرة التي تغطي احتياج طفلي".
وتضيف: " غادرت كثيرًا طابور التوزيع بأيدٍ فارغة تلوح في الهواء، وهذا الأمر استمر لأسابيع وربما لأشهر".
وتتابع في وصف معاناتها التي تفاقمت لاسيما بعد إصابة زوجها إصابةً بالغة أفقدته الإبصار: "كنت أصنع البسكويت لأبيعه في السوق ورغم ذلك لم أستطع توفير ثمن العلب في أغلب الأحيان".
وفي ردها على سؤال يتعلق بخياراتها حيال احتمال انقطاع المساعدات أو تضاعف سعر الحليب خلال الفترة المقبلة نظراً لتدهور الأوضاع الأمنية والعسكرية، صمتت لبرهة ثمّ أجابت بحيرة: " لا أعلم، فالأطعمة المغذية منقطعة تمامًا وأخشى أن يعاني طفلي من المجاعة وسوء التغذية".
وخلال زيارتي لمستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية، التي تعدّ المركز الوحيد المسؤول عن توزيع علب حليب الأطفال ضمن نطاق مدينة غزة، ساعدني المرشد الطبي في التعرّف على إحدى حالات سوء التغذية، وكانت الحالة للطفل مؤيد راشد (3سنوات)، وقد رأيته شاحب الوجه هزيل الجسد لا يقوى على فتح عينيه من شدة التعب، باختصار الوصف كأن لم يبقَ من عظامه ولحمه سوى روحٍ بائسة على جسدٍ هالك.
تحدثت مع والدته السيدة عزة راشد (37 عامًا) التي شرحت لي الوضع الصحي لطفلها منذ ولادته قائلةً: " يعاني مؤيد ضمورًا بالدماغ ومشاكل عصبية إلا أن الحالة الصحية لديه كانت مستقرة نسبيًا قبيل الحرب بفضل الغذاء المتكامل وجلسات العلاج الطبيعي".
وفي ظل انقطاع الغذاء والحليب المدعّم بالفيتامينات اللازمة، تعقب راشد مضيفةً: "حاليًا لا أستطيع تدبير غذاء لطفلي سوى الخبز أو النشا مع الماء، ما أصابه بسوء التغذية".
واسترسلت في حديثها حول قدرتها على توفير الحليب: "إن لم أحصل عليه بالمساعدات فإني لا أستطيع شراءه كما حدث خلال الأشهر الماضية ما زاد وضعه سوءًا على سوء".
في الأثناء، أكد مسؤول قسم الصيدلية والمخازن في المستشفى، محمود الدلو، أنّ كميات الحليب المتوفرة خلال الوقت الراهن شحيحةً جدًا مقارنةً بفترة ما قبل الحرب، وذلك بفعل قلة توفره في الصيدليات العامة والمؤسسات التي تهتم بالتغذية والطفل، إلى جانب توقّف أكثرها عن العمل.
وقال الدلو: " إن نسبة الحليب المتوفرة تقدر ما بين ١٠% - ١٥%، علاوةً على مشكلة انقطاع استمراريتها أحيانًا لأيام أو لأسابيع، إنّ هذا الأمر شكل عامل ضغط علينا في تلبية احتياج أكثر من عشرة آلاف طفل للحليب مقابل ألف عبوة فقط في يوم واحد".
وأوضح أنّ بعض أنواع الحليب المتوفرة قد لا تلبي كامل احتياجات بعض الأطفال ممن يعانون أوضاع صحية خاصة كأطفال سوء التغذية وضعف المناعة، مختتمًا بقول: "هناك أطفال يحتاجون أنواع معينة مدعّمة بسعرات عالية لتعويض النقص الغذائي لديهم لا تتوافر بشكل دائم".
وطبقا لتقارير صادرة عن منظمة يونسف، فإن قرابة 3,000 طفل فقد إمكانية العلاج من سوء التغذية المعتدل والشديد في جنوب غزة، مما يعرضهم لخطر الموت إذ تستمر أعمال العنف والتهجير المروعة تعطّل إمكانية وصول الأسر اليائسة إلى مرافق الرعاية الصحية وخدماتها.
وهذا العدد، استناداً إلى تقارير شركاء اليونيسف في مجال التغذية، يقارب ثلاثة أرباع الأطفال الذين تظهر التقديرات أنهم كانوا يتلقون رعاية منقذة للحياة في الجنوب قبل تصاعد النزاع في رفح، وعددهم 3,800 طفل.
كما أن الخطر المحدق المتمثل في إصابة الأطفال الأكثر ضعفاً بالأمراض نتيجة سوء التغذية يشكِّل مصدرَ قلق إضافي. فعلى الرغم من التحسن الطفيف في إيصال المساعدات الغذائية إلى الشمال، حصل تدهور كبير في إيصالها إلى الجنوب. وتُظهر النتائج الأولية لفحوص أجريت مؤخراً في المحافظات الوسطى والجنوبية في قطاع غزة أن حالات سوء التغذية المعتدل والشديد ارتفعت منذ الأسبوع الثاني من أيار / مايو، عندما سجّل إيصال المساعدات الإنسانية تراجعاً كبيراً بسبب تصعيد الهجوم على رفح.
تقول السيدة أديل خضر، المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: "لا تزال الصور المروعة من غزة تظهر أطفالاً يموتون أمام أعين أسرهم بسبب استمرار نقص الطعام والمواد الغذائية وتدمير خدمات الرعاية الصحية. وإذا لم يُستأنَف بسرعة علاج هؤلاء الأطفال، وعددهم 3,000، فإنهم معرضون لخطر محدق وخطير للإصابة بأمراض حادة ومضاعفات تهدد حياتهم، والانضمام إلى القائمة المتزايدة من الأولاد والبنات الذين قُتلوا جراء هذا الحرمان الأحمق الذي سبَّبه البشر".
ويترافق خطر تزايد حالات سوء التغذية مع انهيار خدمات علاجه. فاليوم، لا يعمل سوى مركزين فقط من أصل المراكز الثلاثة التي تعالج الأطفال المصابين بسوء التغذية الخطير في قطاع غزة. كما أن خطط افتتاح مراكز جديدة تأخرت بسبب تواصل العمليات العسكرية في جميع أنحاء القطاع.