كم تعثّرت هنادي رضوان، التي تعاني من إعاقة بصرية، بين الحجارة وهي تفرّ من الموت المحقّق في حي الكرامة شمال قطاع غزة، خلال اليوم الثاني للحرب الإسرائيلية!. كان ذلك اليوم الأخير الذي تتنفّس فيه عبق شجرة الليمون في الشارع المجاور لها، قبل أن يتحوّل المكان إلى ركام، لا تفوح منه سوى رائحة الدخان والرماد، فيما تحوّلت الشوارع المألوفة بالنسبة لهنادي إلى متاهةٍ من الخطر بفعل القصف، وأصبحت كل خطوة تخطوها تُهدِد حياتها.
وعلى الرغم من أنّ هنادي (30 عامًا)، حاصلة على الماجستير في الصحة النفسية، إلا أنّها لم تجد في تخصصها الدراسي سُبلاً عملية تُخفف عنها التحدّيات الكبرى التي واجهتها كواحدة من ذوي الإعاقة البصرية أمام المعضلات العظمى التي تسبب بها الحرب من نزوحٍ متكرر ودمارٍ هائل وتكدسٍ للنفايات ونقص حادّ في الخدمات والإمكانيات الخاصة بدعم هذه الفئة الهشة.
تقول هنادي في سياق سرد قصتها لمراسلة "آخر قصة": "كنت عبئًا على والديَّ، اللذين كانا مضطرين لمرافقتي في الطريق، ولم أكن لوحدي، فنحن أربعة إخوة نعاني من إعاقاتٍ مختلفة". أحدهم لديه إعاقة سمعية، والآخر كفيف جزئيًا، والثالث يعاني ضعف شديد في البصر بالإضافة إلى مشكلة في ضغط العين.
تردف بحزنٍ "كان وجودنا معًا يُشكِّل أزمة كبرى، تمنيت لو أستطيع مساعدة أحدٍ منهم، لكني كنت بحاجة للمساعدة أيضًا".
ومع استمرار الحرب، تعرَّضت هنادي للحصار في منزلها الذي نزحت إليه في الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة، في ديسمبر 2023، تُعقِّب: "شعرت حيّنها بالعجز لأول مرة، وتجدَد شعوري بالقهر والإعاقة إثر معاناتي الفائقة كلما اضطررت للنزوح إلى مراكز الإيواء التي تفتقر جميعها إلى أدنى المقومات اللازمة لرعاية احتياجات المكفوفين".
تسببت الحرب الإسرائيلية التي المندّلعة منذ السابع من أكتوبر 2023، في زيادة معدلات الأشخاص ذوي الإعاقة. وأظهرت دراسةٍ بحثية وجود علاقة بين شدة القتال وانتشار الإعاقة تبعًا للتوزيع الجغرافي، حيث تبين أن زيادة بنسبة 10% في القتال تؤدي إلى زيادة مقدارها 0.61% في النسبة الإجمالية للأشخاص ذوي الإعاقة.
كما أظهرت الدراسة أن النسبة المئوية للأشخاص الذين يعانون من إعاقة بصرية ارتفعت بنسبة 50%، بينما بلغ عدد الأشخاص الذين يعانون صعوبة في الإبصار في قطاع غزة قبل الحرب 9729 شخصًا، وفقًا لإحصاءات وزارة التنمية الاجتماعية.
كما أدّت إلى أضرار فادحة للمراكز التي تُعنى بذوي الإعاقة البصرية. ومنها تدمير مركز النور للمكفوفين، التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" والذي كان يُقدِّم خدماته للمئات من الأطفال المكفوفين. إلى جانب تدمير مبنى جمعية الخريجين لذوي الإعاقة البصرية؛ مما أفقد الآلاف من ذوي الإعاقة البصرية خدماتٍ كانت أساسية بالنسبة لهم.
على إثر ذلك، يُعاني ذوو الإعاقة البصرية في غزة من ظروفٍ صعبة في بيئة نزوح غير مؤهلة لاحتياجاتهم الخاصة، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى خدمات الرعاية الطبيّة والنفسية. فيما يُضاف إلى ذلك كلّه تزايد مُعدّلات البطالة في صفوفهم بنسبة 100% تقريبا؛ ما يُضخم معاناتهم ويُعمّق مأساتهم.
ممثل ذوي الإعاقة البصرية في قطاع غزة، نادر بشير، تحدث عن معاناته وزملائه الآخرين مع تداعيات الحرب، قائلاً: "شعرت بصعوبة شديدة حين طلب مُنّا الإخلاء، فكنت قد اعتدّت على المكان الذي أعيش فيه، أعرف الطريق إلى كل شيء، لكن الانتقال إلى المجهول دون أدوات مساعدة أو طرق آمنة كان أمرًا قاسيًا جدًا".
يُضيف بشير الذي يشغل أيضًا منصب رئيس جمعية رابطة الخريجين المُعاقين بصريًا، وقد عمل مدرّسًا للمكفوفين في مدرسة النور والأمل منذ 25 عامًا، أنّه يُعاني من توترٍ وقلق شديدين بسبب القصف والانفجارات العشوائية، قائلاً: "أن تكون كفيفًا يعني أنك لا تستطيع تحديد مكان الخطر، وقد فقد أحدّ زملائي حياته بسبب الضياع واقترابه من مكان استهداف عشوائي".
وفي محاولة لتقديم الدعم لزملائه، نَظَم نادر جلسات دعم نفسي لحوالي 250 كفيفًا نازحين في مخيم "ذوي الهمم" جنوب قطاع غزة، لكن اجتياح مدينة رفح في مايو 2024 أفشل مخطط تنفيذها؛ مما فاقم الصعوبات النفسية التي يتعرضون لها، في ظل عدم اهتمام من الجهات الدولية المختصة بحقوق ذوي الإعاقة، وفق قوله.
في ظروفٍ مشابهة، عانى الكفيف بشار علي (42 عامًا) وهو أبٌ لخمس أطفال، من عدم تلقي أي دعم مالي أو نفسي من أي جهة، مشيرًا إلى معاناته خلال 11 عملية نزوح بين رفح وخانيونس والمحافظة الوسطى.
يضيف بشار: "تعرّضت لمواقف عديدة جعلتني عاجزًا عن التصرف بسبب إعاقتي، ففي إحدى المرات، خلال قصف عشوائي، لم أتمكن من معرفة الطريق إلى باب الخيمة، فاحتضنت أطفالي في حالةٍ من الرعب وأنا غير قادر على معرفة من أين يأتي الرصاص".
تشير دراسة بحثية مُعنونة بـ "الواقع المعيشي للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في ظلّ حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة 2024"، إلى أنّ الإناث من ذوي الإعاقة البصرية يعانين بدرجة أكبر من الذكور من حيث الصعوبات الصحية والبيئية والمعيشية.
شملت عينة الدراسة التي أعدّها باسل عابد وباحثين آخرين، 103 شخصًا من ذوي الإعاقة البصرية، وجاءت نسبة توزيعهم 62.1% ذكور، و37.9 إناث.
ووفقًا لعابد فإنّ الواقع الحياتي لذوي الإعاقة البصرية صعب للغاية، إذ يواجه أصحاب الإعاقة صعوبات أبرزها صعوبة الحركة وفقدان الأساسيات التي يرتكزون عليها، وذلك بسبب تركهم لأماكن سكنهم، وفقدان الأماكن المهيأة مع طبيعة إعاقتهم، إضافة لمعاناتهم من أوضاع اقتصادية صعبة نتيجة انعدام مصادر الدخل والغلاء الفاحش، وعدم قدرتهم على توفير فرص عمل تتناسب معهم، ووجود مخاطرة في تنقلهم للحصول على المساعدات الإغاثية.
وخُلص عابد في دراسته إلى أن ذوي الإعاقة البصرية النازحين في تجمعات منتظمة وعشوائية هم من يواجهون الصعوبة الأكبر من كافة النواحي.
تشير بيانات جمعها مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، إلى أن 77.8% من الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة قد نزحوا من منازلهم، وأن 19.4% منهم فقدوا بيوتهم تمامًا نتيجة الهدم الكلي، بينما تعرضت 27.8% من المنازل للهدم الجزئي جراء القصف. وقد جرى الاتصال بـ 100 مبحوث/ة لرصد آثار الحرب عليهم، وتم الوصول إلى 36 منهم فقط بسبب انقطاع الاتصالات والنزوح، حيث اضطر البعض للنزوح أكثر من مرة، ووصل عدد مرات النزوح لدى بعضهم إلى 6 مرات.
ولعل هذا الواقع المتردي، قد فاقم من المعاناة النفسية للأشخاص من ذوي الإعاقة عموما والإعاقة البصرية على وجه الخصوص. ووفقًا لما أكّدت عليه المختصة النفسية حنين الخضر فإنهم الأكثر عُرضة للصدمات النفسية، وأحالت ذلك عدم مقدرتهم على قراءة منشورات الإخلاء، ولا رؤية أماكن القصف وتبين مواضع الخطر، إلى جانب وعورة الطرق نتيجة الدمار الهائل في البنى التحتية، ونقص أماكن الإيواء المؤهلة؛ مما يزيد من الضغوط النفسية عليهم.
وأوضحت الخضر أنّ الصدمات النفسية التي تصيب الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية جرّاء الحرب، تتمثل في اضطرابات النوم، والكوابيس، ونوبات الهلع؛ إثر إمكانية فقد مقدم الرعاية لهم.
على إثر هذه الظروف، تُعد الرعاية الطبيّة والمتابعة النفسية لمثل هذه الفئة أمر حيوي، وفقًا للخضر التي أشارت إلى أهمية إنشاء بيئات آمنة للتعبير عن مشاعرهم والتعامل مع مخاوفهم، والاستماع لشكواهم ودمجهم في تجمعات صغيرة مع أقرانهم للتعبير عما يجول بخاطرهم.
ونصحت الخضر أصحاب الإعاقة البصرية بالحفاظ على ثباتهم الانفعالي، وعدم الذعر عن اقتراب الخطر والتصرف بهدوء، وطلب المساعدة ممن حولهم دون خجل، وتكوين خارطة ذهنية للمكان الذي يمكثون به لسهولة التحرك عند الخطر.
وتعدّ الانتهاكات لحقوق ذوي الإعاقة في قطاع غزة، مُخالفة واضحة لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي تنصّ على اتخاذ تدابير حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر والنزاع المسلح.
يقول المحامي المتخصص في مجال القانون الدولي يحيى محارب: "إنّ إسرائيل تعمّدت استهداف ذوي الإعاقة خلال الحرب، متجاهلة المواثيق الدولية التي تنصّ على حماية هؤلاء الأشخاص، مثل اتفاقية جنيف الرابعة، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006، وتحديدًا البند (11) الذي ينصّ على ضمان سلامتهم في حالات النزاع المسلح".
وأضاف مُحارب: "من الواجب على المؤسسات الدولية المعنيّة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أن تتحمل مسؤولياتها في غزة، وتضمن وصول المساعدات الإغاثية لهم بشكلٍ آمن".
وفي ظلّ استمرار الانتهاكات الإسرائيلية بحقّ الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة، التي تعكس تجاهلاً صارخًا للمواثيق الدولية التي تضمن حماية حقوقهم في النزاعات، يدعو حقوقيون إلى التحرك دوليًا بشكلٍ عاجل لضمان حقوقهم وتوفير الحماية اللازمة.