لم يأت الهجوم من فراغ، وعلينا أن نستعيد كلّ ما سبقه من أحداث وحقبات تاريخية منذ وعد بلفور، بكل ما فيها من نكبات ونكسات وهزائم قتل واعتقالات، ومصادرات هدم وتدمير، وإقامة دولة المستوطنين في الضفة الغربية حيث هم الحاكم الناهي يبطشون ويعتدون ويقتلون ويحرقون، وكل ما ترتب على فصل غزة عن الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، فتحوّل الفلسطينيون أنواعاً يشبهون ألوان بطاقاتهم الشخصية.
"فلاش باك" شخصي سريع.
الساعة 6:30 صباحاً في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) جاءت أمي مسرعة لإيقاظي: "مرال قومي بسرعة... هناك إطلاق كثيف للصواريخ من غزة، انظري إلى هاتفك".
كنت قد طلبت من والدتي ألا توقظني بأي شكل من الأشكال، إذ إنني قضيت اليومين السابقين والليل كاملاً أدقق ترجمة كنت أعمل عليها قبل إرسالها عند الساعة 4:45 دقيقة، بعد بضع دقائق بدأت الإشعارات تملأ الهاتف.
الساعة 6:45 انطلقت تغطية "النهار" المستمرة حتى الساعة.
بينما كنا نائمين، كان هناك في غزة مقاومون يستعدّون لتنفيذ هجوم تاريخي. حدث قلب كل الموازين والمعادلات الإقليمية.
وفي ظل الحرب المتسارعة التي من الصعب التنبؤ متى ستتوقف أو أين ستنتهي، أدرك الفلسطينيون أنها اللحظة الحاسمة: أن تكون أو لا تكون، لا خيارات كثيرة أمامنا".
"لم يعد أحد أو شيء كما كان، تغيّرت أوضاعنا، لقد تغيّرنا كثيراً"، هذه هي الجملة التي نسمعها ونحن نتنقل بين كل قرية ومدينة، لكن التغيير لم يكن صدفة أو جاء من فراغ ، لقد كان قبل ذلك بكثير، منذ 77 عاماً، إنها المعركة التي لم تحدث يومها وحدثت في ذلك اليوم من أيام تشرين الحارة.
تخطّت هجمات 7 أكتوبر التوقعات، كونها مباغتة ومخططة بدقة وأصابت أهدافها، وربّما أبعد بكثير أيضاً، كما أنها أظهرت قدرة إسرائيل الحقيقية على الدفاع والردع معاً، وبالتأكيد تمكّنت من دحض الدعاية الإعلامية عن أنها "القوة الأسطورية" في الشرق الأوسط.
تبيّن أنها غير حقيقية أو واقعية وأنها غير قادرة فعلياً، من دون الدعم الأميركي التسليحي والعملياتي ومن دون ما يقوم به حلفاؤها لحمايتها، كما أجمع بعض الضباط السابقين على أن إسرائيل ليست فقط جيشاً لديه دولة، بل إنها قاعدة عسكرية كبيرة. يبدو أنّ الصورة بدت أكثر وضوحاً.
لم يأت الهجوم من فراغ، وعلينا أن نستعيد كلّ ما سبقه من أحداث وحقبات تاريخية منذ وعد بلفور، بكل ما فيها من نكبات ونكسات وهزائم قتل واعتقالات، ومصادرات هدم وتدمير، وإقامة دولة المستوطنين في الضفة الغربية حيث هم الحاكم الناهي يبطشون ويعتدون ويقتلون ويحرقون، وكل ما ترتب على فصل غزة عن الضفة والقدس والداخل الفلسطيني، فتحوّل الفلسطينيون أنواعاً يشبهون ألوان بطاقاتهم الشخصية.
بعدما تهشّمت صورة المارد، استفادت إسرائيل من بعض المؤثرين لنشر البروباغندا عقب سقوط وزارة الهاسبراه - الدبلوماسية العامة، وشنّت حرباً نفسية غالباً ما تستخدمها في الأوقات الحرجة لتشرّع مجازرها والقتل الوحشي لاستعادة مكانتها "الخارقة"، وتبرير حقها بـ"الدفاع عن النفس والردّ"، بالقصف والتدمير وقتل المزيد من الأطفال والنساء، وممارسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بمحو عائلات بأكملها من السجلّ المدني.
هجوم أكتوبر بداية وليس نهاية بكل ما فيه من كوارث ومآس إنسانية. ونزوح مليوني فلسطيني داخل قطاع غزة لم يكن ليحدث لولا الذي حدث سابقاً.
من المضحك أن يعتقد بعضهم أنّ الاحتلال الإسرائيلي هو "احتلال خمس نجوم" أو "ديلوكس"، علماً أنّ الواقع أسوأ بكثير من ذاكرتهم القصيرة وخيالهم المحدود، فهل علينا أن نتوقع حلول السلام العادل والشامل بعد كلّ ما مررنا به من حروب وانتفاضتين واجتياح ومعركة مخيم جنين، وعمليات عسكرية تجاوزت الثماني بين عامي 2006 و2022، إضافة إلى حصار مطبق تجاوز 17 عاماً على غزة؟
لا يمكننا أبداً أن نتجاوز 32 عاماً من "أوسلو" المأسوي الذي تحوّل من اتفاق مبادئ إلى تسوية نهائية، واختزل مصطلحات الدبلوماسية الفلسطينية الضعيفة أصلاً، وقسّم ما تبقى من أرض فلسطين، وسط تساؤلات كيف أن أحداً ممن وقّعوه لم يتوقّع ما يحدث اليوم ولم يهتم بأن يسأل الفلسطينيين عن رأيهم، وكيف تحوّل في الغرب إلى مسرحية بأسلوب برودواي، وإلى فيلم خيالي أشبه بقصة نارينيا يعرض على شبكة "نتفليكس".
لكن أحداً لم يأبه بالواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون على الأرض، من استباحة الجيش الإسرائيلي للمدن والمخيمات وتدمير البنية التحتية، واستخدام الطيران الحربي والمسيرات في قتلهم، والاعتقلات التي تجاوزت مليون فلسطيني منذ عام 1967، إلى تحوّل السجون لمسالخ وأشبه بالمعتقلات النازية.
كانت آثار "أوسلو" أشدّ قسوة من الاحتلال نفسه، وتحوّلت المدن والقرى إلى غيتوات تفصل بينها مساحات من الأراضي المليئة بالمستوطنات والتي تتزايد يومياً، إضافة إلى المعابر والحواجز التي هي أصلاً تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية وتحدّ من القدرة على التنقّل أصلاً، فالبيّنة الأساسية للفصل العنصري كانت جاهزة ومخططاً لها قبل ذلك بسنوات، منذ بدأ سرطان الحركة الاستيطانية الانتشار على سفوح الجبال والسهول والأودية، كيف لا ووزير الدفاع الإسرائيلي وصف الفلسطينيين بأنّهم "حيوانات بشرية" لا تستحق الحياة.
ووسط كل هذا تظهر لامبالاة السلطة الفلسطينية التي تفكّر بـ"اليوم التالي" للحرب، متجاهلة الواقع الحالي المرير في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، فيما يتطلع الفلسطينيون إلى ضرورة وقف المذبحة المستمرة في غزة التي تسيل دماؤها من دون توقف منذ 365 يوماً.