منذ ساعات الصباح الباكر، تقف "أم خالد" رفقة العشرات من نساء الحي في إحدى مخيمات النزوح بمواصي خان يونس جنوبي غزة، أمام أحد خياطي الملابس، ينتظرن دورهن، لتفصيل لباس شتوي لهن ولأبنائهن مع اشتداد موجات البرد الذي يتعرض له النازحون في الخيام.
قد تبدو صورة المشهد طبيعية، ولكن حقيقة ما وراءها ليست كذلك، فالقماش الذي تحمله هؤلاء النسوة لخياطته، عبارة عن أغطية وبطانيات وستائر أوجه فرشات، "فقد بات هذا الخيار الوحيد المتبقي أمام أهالي غزة لحياكته وتحويله إلى ملابس".
بطانيات وأغطية تتحول لملابس
الخياط "سائد"، بات الأكثر شهرة، بعد أن ابتكر هذه الطريقة، يقول لـ"قدس برس": "تأتيني النساء والفتيات مع أطفالهم يقدمون لي أقمشة وأغطية مختلفة، ويطلبن مشورتي بما يمكن أن يتحول إلى جاكيت شتوي أو بلوزة (سترة) أو بنطلون حراري أو تفصيلة ملابس لمولود أو طفل صغير، وأنا بدوري أقوم بحياكته بناء على طلبهم".
يضيف سائد: "خطرت ببالي هذه الفكرة، حينما عجزت والدتي عن إيجاد معطف شتوي لأختي الصغيرة، ففكرت بتحويل الستارة لجاكيت بديل، فقماشها مخملي ويمكن استصلاحه والاستفادة منه، فاشتريت الأزرار والخيطان والسحابات، وابتكرت عند إحدى الفنيين طريقة لتشغيل ماكينة الخياطة، عبر دواليب الباسكليت دون الحاجة إلى كهرباء".
بدأت بتطبيق فكرة المشروع بتفصيل ملابس لأشقائي الصغار وبنات شقيقاتي، ولامست فيه قبولا وارتياحا حتى بدأ أقرانهم في الحي يسألوهم من أين اشتروها، وهو ما يعكس جودة العمل لدرجة أنه يصعب التفريق بينه وبين الملابس الجديدة، وفق سائد.
قيود الاحتلال
مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عامها الثاني على التوالي، يواجه سكان القطاع أزمة في توفير الملابس الشتوية، إذ لم تسمح سلطات الاحتلال خلال عام كامل من مرور أي شاحنة تحمل الملابس لسكان القطاع، بالرغم من وجود المئات بانتظار الموافقة للمرور من الجانب الإسرائيلي إلى داخل القطاع، عبر معبر "كرم أبو سالم".
وتقول رئيسة قسم التوعية الطبية في "مخيم الصمود" بخانيونس أحلام النبريص لـ"قدس برس": "زاد ذلك من معاناة الكثيرين الذين فقدوا ملابسهم بسبب القصف الإسرائيلي وباتت أمتعتهم تحت الركام، لدرجة بات مستحيلا على الأهالي الوصول إليها، وإن وجدت فهي إما ممزقة من كثرة الشظايا التي أصابتها، أو تعرضت لكميات كبيرة من البارود والمواد السامة وبالتالي بات صعبا ارتدائها من جديد".
وتكمل: "كما كانت أوامر الإخلاء الإسرائيلية التي صدرت منذ الأيام الأولى للحرب والتي لم تتوقف حتى هذه اللحظة، سببا في عدم قدرة الغزيين على نقل كامل أمتعتهم من مكان لمكان ما جعلها عرضة للذوبان والاهتراء بسب ظروف الطقس".
مواليد الحرب الأكثر تضررا
وتشير "النبريص" إلى أنه خلال أشهر الحرب وجدت العديد من النساء أنفسهن في حيرة بسبب أطفالهن المواليد اللواتي وضعنهن في الحرب، وكبروا بشكل سريع دون أن يتمكنوا من توفير ملابس لهم تقيهم من برد الشتاء الحالي أو تخفف عنهم من حرارة الصيف في فترة النهار.
وتضيف: "كانت هذه الفئة هي الأكثر تضررا من قرار المنع الإسرائيلي بحظر دخول الملابس، فغالبية هؤلاء المواليد تعرضوا لتسلخات جلدية شديدة، بسبب ارتدائهم لملابس لا تناسبهم فهي إما لجيل أكبر منهم تمت خياطتها وتفصيلها لتفي بالغرض، ومع مرور الوقت تبين أن كثيرا منها ليست من القطن وإنما مصنوعة من النايلون أو البوليستر".
ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي، مدعوما من الولايات المتحدة وأوروبا، للعام الثاني على التوالي، عدوانه على قطاع غزة، حيث تقصف طائراته محيط المستشفيات والبنايات والأبراج ومنازل المدنيين الفلسطينيين وتدمرها فوق رؤوس ساكنيها، ويمنع دخول الماء والغذاء والدواء والوقود.
وخلّف العدوان نحو 148 ألف شهيد وجريح فلسطينيي، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.