تركت الحرب الإسرائيلية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا على قطاع غزة دمارًا هائلًا طال المنازل والممتلكات، وتحوّلت المساكن التي كانت تمثل نقطة الأمان والذكريات الحيّة، فجأة إلى أطلال، وبقيت آثار الألم والدمار ترافق العائلات التي فقدت كل شيء.
ومع سريان التهدئة ووقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة، وبدء عودة النازحين إلى أماكن سكناهم، توقفت الحرب الصاخبة وبدأت حروب أخرى صامتة عندما ظهر بوضوح حجم المأساة التي تنتظر السكان، والتحدّيات التي تُواجههم في مثل هذه اللحظات العصيبة، فكيف يمكن التعامل مع فقدان هذا الجزء الحيوي من حياتهم؟ وهل هناك أمل في بناء مرونة نفسية لدى أولئك الذين يعانون آثار الدمار؟
تُشير الإحصاءات المحليّة إلى أنّ الحرب الإسرائيلية خلّفت قطاع غزة مدمرًا بنسبة 88%؛ ما يعني أنّ معظم المناطق السكنية قد تدّمرت ولن يتمكن ساكنوها من العودة إليها من جديد، وقد يضطر معظمهم إلى البقاء في مراكز الإيواء المؤقتة أو الانتقال إلى خيام بجوار ركام منازلهم.
أم علي جابر، امرأة خمسينية تقطن في حي الدرج بمدينة غزة، فقدت منزلها بالكامل فيما استشهد أربعة من أفراد عائلتها، تقول: "المنزل كل عالمي، وذكريات عائلتي وأبنائي الذين رحلوا، خسارته ليست أغلى من الأبناء لكنه كان المأوى والآن لا أعرف أين سأعيش وهل سأستطيع الاستقرار بعيدًا عن بيتي".
آلاف العائلات أيضًا يعيشون الألم الذي تعيشه أم علي، بعدما دمّر الاحتلال (161,600) وحدة سكنية بشكلٍ كلي، وخلّف (82,000) وحدة سكنية غير صالحة للسكن، هؤلاء يجدون أنفسهم اليوم يعيشون في دمارٍ شامل، فلم يعد للمنزل قيمة سوى كذكرى مؤلمة.
تقول المختصة النفسية دعاء دحلان: "عندما تُسلب العائلات من منازلها، لا يتعلق الأمر فقط بفقدان المبنى المادي؛ بل يتعداه إلى فقدان الأمان والاستقرار النفسي، الذي كان يوفره المكان".
كما أنَّ فقدان المنزل والممتلكات ليس مجرد فاجعة مادية؛ بل هو تفكيك لهوية الشخص والمجتمع، وفقًا لدحلان، التي أشارت إلى أنَّ الشخص الذي يفقد منزله يشعر أنّه فقد ذاته، فيمر بمرحلة من الإنكار والغضب ثم الحزن، وهي مراحل نفسية قد تؤدي إلى مشكلات صحية إن لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
ويحتاج هؤلاء الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في التعامل مع فقدان المنزل، إلى ما يُطلق عليه في علم النفس "شبكات الدعم" في المجتمع المحلي كالجيران والمبادرين وغيرهم، التي تساعدهم على اتباع استراتيجيات لآليات التأقلم وتجاوز التحدّيات اليومية الصغيرة.
يقول سعيد حمدي، أحد الذين تضررت منازلهم جزئيًا في حي السلطان برفح، إنّه فور سريان التهدئة صباح الأحد الماضي، ذهب لتفقد منزله فوجده كومة ركام، يردف: "شعرت أنّ ركام المنزل في الجزء المتضرر منه كأنه جاثم على صدري، المنزل أعمدة فقط دون جدران، لكنني سأضع زينكو وشوادر بلاستيكية من حوله وأعود إليه".
وقد بدأت بعض العائلات النازحة من مدينة رفح جنوبي قطاع غزة في العودة إلى مناطق سكناهم المدمرة بعد توقف نيران الحرب، لكنهم يواجهون الكثير من التحدّيات في دمار البنية التحتية، وشبكات المياه، والصرف الصحي بشكلٍ هائل.
فيما تقدر الأمم المتحدة أن تكلفة إعادة بناء البنية التحتية تبلغ 18.5 مليار دولار، مع تقديرات تشير إلى أن إعادة بناء المنازل المدمرة قد تستمر حتى عام 2040 على الأقل.
يتابع سعيد حديثه إلى "آخر قصة": "على الرغم من الدمار الكبير، فكر بعض الشبان المبادرين إلى افتتاح تكية لتوزيع الطعام مجانًا على السكان في الفترة الأولى، وبدأت الجهود في محاولة صيانة وإصلاح خطوط وشبكات المياه، وتوفير مياه صالحة للشرب، بهذه الطريقة نستطيع مساعدة بعضنا البعض وهذه الجهود تمنحنا القوة لتجاوز قسوة الحياة".
في الإطار، أشارت المختصة النفسية، إلى أنّ التكاتف الاجتماعي يساهم في تعزيز الشعور بالتعافي في وسط القسوة التي يمر بها سكان غزة، خاصّة بعد فقدان منازلهم وممتلكاتهم في الحرب، فعلى الرغم من الألم العميق الذي يعانيه الأفراد بسبب الدمار الهائل الذي حلّ في حياتهم، يعزز الدعم الاجتماعي الجماعي من قدرتهم على التكيف مع الوضع الصعب والبدء في إعادة بناء حياتهم.
وعلى إثر تكرار عمليات النزوح خلال الحرب، عانت الأسر من فقدان تدريجي لما تبقى من ممتلكاتها الأساسية كالملابس والأغطية والفراش وأدوات الطعام، وبعد توقف الحرب، أصبحت العائلات التي فقدت منازلها وكافة ممتلكاتها بحاجة ماسّة إلى المساعدات الأساسية العاجلة للتخفيف من أعباء تدّاعيات اليوم التالي للحرب عليهم.
أم أحمد كريم (61 عامًا) نازحة من منطقة الشرقيّة شرق خانيونس جنوب قطاع غزة، تقول إنّها خسرت إرث عمرها عبر أكثر من ثلاثين عامًا وأصبحت بلا مأوى وبلا أي ممتلكات بعدما خسرت كل ما بحوزتها.
وتردف وقد علّت وجهها علامات الحزن: "كنت نازحة في بيت أقارب لنا في دير البلح، وقد تكلفوا بتوفير كل ما يلزمنا خلال الحرب، أما اليوم وقد عدت أنصب خيمة على أنقاض بيتي فإنني بحاجة لملابس وأغطية تقيني وعائلتي برد الشتاء القارس".
تشير تقارير أممية إلى أنّ قطاع غزة عانى خلال فترة من نقصٍ حادّ في وصول الإمدادات الرئيسية والمساعدات الإنسانية وبقي مئات الآلاف من السكان دون الحصول على الغذاء أو الماء أو الكهرباء أو الرعاية الصحية.
كما تبين أنّ المساعدات التي تصلّ إلى المخيمات أو المناطق المتضررة غالبًا ما تكون غير كافية، خاصّة مع تزايد أعداد النازحين، يصبح من الصعب توفير الغذاء والماء والملابس الأساسية، مما يزيد من تعقيد الحالة النفسية للمواطنين.
أما بعدما أُعلن عن توقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبدأت عمليات إدخال شاحنات المساعدات لسكانه بدا الأمل أكبر في أن يتلقى المتضررون احتياجاتهم الأساسية من المساعدات الإنسانية الطارئة.
بعد الدمار الهائل وصعوبة الظروف التي تحيط بسكان قطاع غزة، يحتاج العديد من الأهالي على البدء في استعادة جزء من حياتهم عبر أساليب نفسية ومجتمعية تهدف إلى تجاوز الفقد.
في هذا السياق، تفيد المختصة النفسية دحلان إلى أنّ إعادة بناء المرونة النفسية تبدأ من التأقلم مع الواقع الجديد، من خلال توفير بيئة آمنة نفسياً، سواء عبر الدعم المجتمعي أو التدخلات النفسية، التي تساعد على معالجة الصدمات، والاضطرابات التي ترتبط فيها".
كما تعمل منظمات المجتمع المدني على تنظيم جلسات دعم نفسي للسكان بهدف تعزيز الصمود والقدرة على التأقلم مع التغيرات المفاجئة. تقول دحلان وهي إحدى المختصات النفسيات المتطوعات في جمعية الهلال الأحمر: "نحن نساعدهم على تحويل الصدمة إلى قوة، عبر التأكيد على أهمية التواصل مع الآخرين، وتوفير مساحات للتعبير عن الألم، حتى يبدأوا في البناء من جديد."
وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها سكان غزة في مواجهة آثار سواء من حيث فقدان المنازل والممتلكات أو التأثيرات النفسية المترتبة على ذلك، يبقى الأمل في قدرتهم على استعادة حياتهم تدريجيًا، كما يتطلب الأمر دعمًا دوليًا مستمرًا وجهودًا محلية مكثفة للتخفيف من هذه الآثار وبناء مستقبل أفضل للسكان.