إنّه اليوم السابع والعشرون من كانون الثاني (يناير) 1967، وعقارب الساعة في الغرفة 219 من فندق "سافوي" تشير إلى الثانية والثلث بعد منتصف الليل. امرأة تصيح بالإيطالية كما اللبوة الجريحة: "قتلة!". صوتها يمزّق سكون الردهة، تستنجد، وتنزلق الكلمات من فمها مفكّكة: "بسرعة. طبيب. لويجي مُصاب".
على المنضدة رسالة وداع واحتجاج، وداليدا ترفض التصديق. قبل ساعات كانت تحاول إنقاذ مسيرة لويجي تينكو وإقناع لجنة تحكيم مهرجان "سان ريمو" بأغنيته "وداعاً، حبّي، وداعاً"، والتعويض بإحساسها المكثّف عن الأداء الكارثيّ لزميلها والرجل الذي أحبّت، وعن فشله في إيصال إحساسه.
"أحببتُ الجمهور الإيطالي وأهديتُه خمس سنوات من حياتي بلا جدوى"، كتب لويجي في رسالته الأخيرة، قبل أن تخترق رصاصة رأسه وتنحني فوقه داليدا، تمسح الدم عن وجهه وتتوسّل إليه أن يستفيق. "لا أفعل هذا لأنني سئمتُ الحياة، بل على العكس، ولكن احتجاجاً ضدّ جمهور (...) ولجنة (...). آمل أن يساعد هذا في توضيح الأمور لبعض الأشخاص. وداعاً. لويجي".
الصبيّ الذي أراد أن يغيّر العالم
وجهٌ ميلانكولي، عينان سوداوان، شخصيّة غراب حزين، وصوت عميق. كان لويجي تينكو عبقريّاً متمرّداً، سابقاً لزمانه، ولهذا لم يفهمه كثر، ولم ينصفه جمهور نهاية خمسينيات إيطاليا وستينياتها، حيث الموسيقى الخفيفة التقليدية لم تفسح المجال بالكامل لثورة الأغنية المؤلّفة التي ستنضج في نهاية العقد.
"وداعاً، حبي، وداعاً" في سان ريمو.
شكّلت مدينة جنوى البحريّة هويّة الصبيّ يتيم الأب. كانت في الخمسينيات بوتقة تفاعل ثقافي، ومدينة بحريّة تلتقي فيها التيّارات العالمية الحديثة مع التقليدي. هناك، في المقاهي البوهيمية التي يملأ الدخان زواياها، ونوادي الموسيقى الحميمة، وجد تينكو فضاءً لصوته. بدأ يعزف الكلارينيت، الساكسفون، والغيتار، ومع وجوه مغمورة تحوّلت في ما بعد إلى ركائز للموسيقى الإيطالية، أمثال جينو باولي وبرونو لاوزي، شكّل فرقاً تقدّم موسيقى الجاز والبوب. العاطفة الخام والأفكار الحادّة ستحدّد مسيرته.
حقبة جديدة كانت قد بدأت تفرض نفسها، ولويجي كان جزءاً من مجموعة "المدرسة الجنويّة" التي شملت أسماءً مثل فابريتسيو دي أندريه، وجينو باولي، وبرونو لاوتزي. لكنه كان الأقلّ حظاً بين أترابه.
في جنوى، عرف لويجي موسيقى الجاز والروك أند رول الأميركية، و"الشانسون" الفرنسية، ومعها الوجودية وإرث رامبو وفيرلين، وكذلك تشيزاري بافيزي والموسيقى البرازيلية... وزميله برونو لاوتسي احتفظ بذكرى لويجي "في مدينة محافظة نوعاً ما، حيث كان نسمة هواء منعشة، فضولياً، مرحاً، مبتسماً، شغوفاً بالتعلّم، وعاشقاً للمسرحيات الموسيقية الأميركية".
"إذا كنت في مزاج جيّد..."
أما جينو باولي، فقد قالها صراحةً: "أسوأ شيء يمكن أن يحدث لإنسان هو أن يصبح أسطورة، ذلك أنّ كلّ ما سيُقال عنك سيُصبح غامضاً". قدّم باولي بورتريه مغايرة لتينكو عن الصورة النمطية التي تصفه بأنّه مغنٍّ كئيب، حزين، منطوٍ ووحيد. "كان شخصاً مرحاً، يحبّ المزاح وإثارة الضجيج. الشيء الوحيد المختلف فيه عن باقي الشباب هو تمرّده. متمرّد، مجنون بعض الشيء، لديه رغبة في إحداث الفوضى أينما ذهب".
خبر انتحار تينكو يتصدّر صحيفة "ستامبا سيرا".
يحفظ محبّو تينكو جملة قالها ذات مرّة عن ظهر قلب: "إذا كنتُ في مزاج جيّد، لا أكتب أغاني، بل أخرج للتنزّه". والحال ينسحب على معظم المغنّين والمؤلّفين. وتينكو بنهايته المأسوية التي لم يُحلّ لغزها بعد، وضع حدّاً لمسيرة فنّية قصيرة، استمرّت فقط سبع سنوات، كان يمكن أن تنقل المشهد الموسيقي الإيطالي إلى ضفّة أخرى.
والمأساة هيمنت على الاهتمام بعبقريّته، وأثّرت على فهم موهبته وإبداعه المشحون بالعواطف والنوازع الفلسفية، ولم تساعد في توضيح معالم شخصيّته المركّبة.
وفي إيطاليا صارت داليدا تلك الغريبة الملعونة، و"السيدة السوداء"، والمرأة المسيطرة التي تكبر حبيبها بخمس سنوات، والتي تحكّمت به حتّى أرغمته على المشاركة في "سان ريمو"، كالت لها الصحافة الاتّهامات. وحياتها عرفت زمنَيْن: ما قبل تينكو، وما بعد تينكو.
"أغنيات احتجاج"... وحظر
كلاسيكيات تينكو تدور بمعظمها حول الاضطرابات العاطفية وصعوبات الحياة، ومع ذلك لم يُغنِّ فقط عن القلق الوجودي. ثمّة أغنيات من أرشيفه وُصفت حينها بـ"أغنيات الاحتجاج"، وأخرى اجتماعية وسياسية، وكذلك أغنيات ساخرة، مثل "بالاد عن الموضة"، وهي إحدى الأغاني التي طلبتها منه محطة "راي" عام 1964، بعد رفع الحظر عنه الذي استمرّ لمدّة عامين، لتقديمها في برنامج "لا كوماري"، الذي كان ينتقد العادات الاجتماعية والنزعة الاستهلاكية.
قبل ذلك بعامين، حظرت شبكة "راي"، التي كانت آنذاك المصدر الوحيد للظهور الإعلامي، أغنيته "عزيزتي المعلمة" (1962)، التي شكّلت نقداً اجتماعياً بنصّ مبتكر للغاية ضدّ عدم المساواة. وفي أغنية "وإذا أخبرونا" (1967)، عبّر تينكو عن مناهضته للحروب والعنصرية. أمّا أغنية "وداعاً، حبّي، التي غنّاها في "سان ريمو" قُبَيل وفاته، فكانت أغنية ضدّ الحرب، وكان عنوانها الأصلي "رأيتهم يعودون"، وتتحدّث عن صبيّ يشاهد الجنود وهم يذهبون إلى الجبهة. لكنّ النص عُدّل إذ اعتُبر "قاسياً للغاية" لتقديمه في مهرجان "سان ريمو"، وباتت الأغنية تتحدّث عن فلاح يترك أرضه سعياً وراء الثروة في المدينة، وهي قصة تعكس واقع الحال آنذاك، حين شهدت إيطاليا هجرة كبيرة من الريف إلى المدن الشمالية للعمل في المصانع.
قد تبدو بعض أعمال تينكو اليوم – سواء في النصوص أو الموسيقى – ساذجة أو غير مكتملة، لكنّها تكشف عن تنوّع كبير يعكس رغبة في فتح طرق جديدة ومختلفة، ومحاولة لخلق نوع موسيقيّ جديد من العدم.
ساعاته الأخيرة مع داليدا.
والشخصية الليبرالية اليسارية المعادية لجمود الأحزاب السياسية صبّت نقمتها في الموسيقى. وألحان تينكو المتقنة قاومت الزخارف الزائدة التي كانت شائعة. وأغنياته عبّرت عن رفضه الحياة البورجوازية والتنازل عن مبادئه.
وأصبحت مسيرته مؤشراً لحقبة الـ68 و"سنوات الرصاص" التي تلتها وهزّت إيطاليا بعمق. وشخصيته الاستثنائية والمتناقضة عكست صورة رجل صارم وضعيف في آنٍ واحد. والمأساة غطّت على الإبداع تارةً، ورفعته إلى مصاف الرموز والأساطير طوراً.
الشيء الوحيد المؤكد هو أن وفاة تينكو عن 28 عاماً، وموهبته الفطرية، وميله نحو النجاح بلا مساومة كي لا ينكر نفسه، تركت فراغاً لا يمكن تعويضه في الساحة الموسيقية الإيطالية. لم يشهد تينكو الثورة الثقافية في الـ 1968، ولا تبدّل الأنظمة وتغيّر المجتمع. ومحبّوه لا يزالون يردّدون كلماته: "أنا شخص لا يخفي أفكاره - هذا صحيح - لأنّني لا أحبّ الذين يحاولون التوافق مع الجميع، ويبدّلون مواقفهم باستمرار لمجرّد البقاء على قيد الحياة".