هل تساءلت يوماً عن عدم قدرتك على تذكّر اللحظات الأولى من حياتك، رغم أنك تعلّمت المشي والكلام وتفاعلت مع مَن حولك؟
يخزّن الدماغ البشري تلك الذكريات، لكنها تختفي لاحقاً، وكأنها لم تكن. إنها ظاهرة "فقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة"، وقد حيّر غموضها العلماء عقوداً: فهل نعجز حقاً عن تكوين الذكريات في سنواتنا الأولى، أم نفقد مفتاح استرجاعها مع الوقت؟
مفاجأة مذهلة
يظن الباحثون أن دماغ الرضيع ليس ناضجاً بما يكفي لتخزين الذكريات. لكن دراسة حديثة أجرتها جامعة "ييل" تكشف عن مفاجأة مذهلة: تسجّل أدمغة الأطفال الأحداثَ، ثم يفقد المرء سبيل الوصول إليها حين يكبر! ويلعب الحُصين، أو الجزء المسؤول عن التعلّم والذاكرة في الدماغ، دوراً أساسياً في هذه العملية، ويؤدي تلفه عند البالغين إلى فقدانهم ذكرياتهم. فماذا عن الرضّع؟ هل يمتلكون حُصيناً قادراً على تخزين الذكريات؟
لسنوات، كان الاعتقاد السائد أن ذاكرة الرضع تشبه الصفحة البيضاء، لكن التجارب الحديثة أثبتت عكس ذلك، وأظهرت الدراسات أن الأطفال قادرون على تذكّر أحداث معيّنة لأيام ولأسابيع، وحتى لشهور عدّة! ففي تجربة نُشرت في مجلة "ساينس"، قاس العلماء نشاط الدماغ عند رضعٍ تتراوح أعمارهم ما بين 4 أشهر و25 شهراً، في أثناء مشاهدتهم صوراً مختلفة، فأتت النتائج مذهلة: كلّما زاد نشاط الحُصين عند رؤية أيّ صورة للمرة الأولى، زاد احتمال أن يتذكّرها الطفل لاحقاً!

الحُصين في ذاكرة الرضّع
تكشف النتائج عن أن الرضّع الذين لا تتجاوز أعمارهم الـ 12 شهراً قادرون على ترميز الذكريات العرضية في الحُصين. وعلى وجه التحديد، كان النشاط في الجزء الخلفيّ من الحُصين (أو الجزء الأقرب إلى مؤخّرة الرأس) مرتبطاً بتشفير أقوى للذاكرة. فهذه المنطقة تؤدّي دوراً أساسياً أيضاً في الذاكرة العرضيّة عند البالغين، مما يُشير إلى أن أدمغة الرضّع تستخدم آلية مشابهة في ترميز الذكريات.
مع ذلك، أظهرت الدراسة نمطاً مختلفاً عند الرضّع الأصغر سناً، إذ لوحظ أن الذين تقلّ أعمارهم عن 12 شهراً لم يظهروا النشاط الدماغيّ نفسه المرتبط بالذاكرة، مما يوحي بأن دوائر الحُصين عندهم لا تزال في طور النمو، وقد لا تكون مهيّأة لترميز الذكريات العرضية بالطريقة نفسها التي يفعلها الحصين لدى الأطفال الأكبر سناً أو لدى البالغين.
توافق هذه النتائج ما كشفت عنه أبحاث سابقة عن التعلم الإحصائي، وهذا نوع آخر من الذاكرة يسمح للرضّع بالتعرف على الأنماط في بيئاتهم. ويُعتقد بأن هذا النوع من التعلّم، المرتبط بمسار حُصينيّ مختلف، يظهر مبكراً قبل تطوّر الذاكرة العرضية، مما يساعد الأطفال على فهم اللغة والأشياء والإشارات الاجتماعية.
يعلق نيك تيرك-براون، كبير مؤلفي الدراسة وأستاذ علم النفس في جامعة "ييل"، على هذه النتائج قائلاً: "السمة المميّزة لهذه الذكريات، التي نسمّيها عرضية، هي قدرتنا على وصفها للآخرين، إلا أن هذا مستحيل عند الرضّع، إذ لم يطوّروا مهارات النطق بعد".
لماذا تتلاشى ذكريات الطفولة؟
إن كانت عقول الأطفال تخزن الذكريات، فلمَ نعجز عن استرجاعها حين نكبر؟ ينقسم العلماء في الترويج لنظريتين: