تضرب السيدة آمال عبد الرحيم (32 عاماً) كفاً بكف، بعد أن انقطع الانترنت عن منطقة سكنها في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، بالتزامن مع موعد اختبارات أطفالها. وقد كانت هذه السيدة تستثمر الانترنت في تعليم أطفالها الثلاثة، عبر تقنية "التعليم الإلكتروني".
تكبدت السيدة آمال تكاليف كبيرة نتيجة توفير اشتراك انترنت شهري بسعر مضاعفة يتجاوز (200 شيكل شهرياً) بمقابل الحصول على ساعات محدودة يومياً. ومع ذلك لم تدم هذه الخدمة المتردية كثيراً، حيث يتذبذب وصول الانترنت إلى أحياء كبيرة من قطاع غزة بفعل تدمير البنية التحتية، وتنقطع الخدمة بالأيام.
وتسببت الحرب الإسرائيلية التي استمرت خمسة عشر شهرًا في كارثة تعليمية غير مسبوقة بقطاع غزة، حيث دُمّرت المدارس أو تحوّلت إلى مراكز إيواء، مما أجبر آلاف الطلبة على ترك مقاعد الدراسة وسط ظروف معيشية قاسية.
برزت محاولات لإعادة إنعاش العملية التعليمية، سواء عبر التعليم الإلكتروني أو المبادرات المجتمعية، لكن جميعا تواجه عقبات كبيرة، أبرزها ضعف البنية التحتية وانعدام الإمكانات التكنولوجية. ومع إعلان وزارة التربية والتعليم استئناف الدراسة إلكترونيًا، واجه الطلبة صعوبات مرتبطة بعدم توفر الإنترنت والكهرباء، مما حال دون متابعة دروسهم بانتظام.
في المقابل، لجأت مدارس "أونروا" إلى وسائل بديلة مثل مجموعات التعلم عبر "واتساب" وتوزيع بطاقات التعلم الذاتي، لكنها أثبتت محدوديتها، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجعل تأمين المتطلبات الدراسية أمرًا صعبًا.
الطالبة شهد محمد (15 عامًا)، التي تقطن في رفح وكانت نازحة في دير البلح، أبدت حماسًا لخبر استئناف الدراسة، لكنها اصطدمت بالواقع المرير. تقول لـ "آخر قصة": "لم يكن لدي إنترنت للتسجيل، فتواصلت مع صديقة سجلت لي على منصة (مايكروسوفت تيمز)، لكنني لا أستطيع متابعة الدروس باستمرار بسبب ضعف الشبكة وارتفاع تكلفة شحن الهاتف".
وطالبت شهد بتحسين جودة الإنترنت وتخفيض أسعاره لتستطيع التواجد بشكلٍ دائم على المنصة ومتابعة التكليفات المطلوبة، فيما عبّرت عن استيائها من التحول للتعليم الإلكتروني وخوفها من أن يطول، مما جعلها تتساءل: "متى ستتم العودة للتعليم الوجاهي؟!
رداً على ذلك، قال المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم، صادق الخضور، لـ "آخر قصة" إنّ الوزارة تحاول تقديم المواد التعليمية عبر المدارس الافتراضية، حيث سيتم دمج عامين دراسيين في عامٍ واحد لنحو 290 ألف طالب، في الوقت الراهن.
وأضاف الخضور أن الوزارة تعمل مع الاتصالات الفلسطينية لتحسين البث، كما تخطط للعودة إلى التعليم الوجاهي تدريجيًا، وفقًا للوضع الميداني، وتوفير مقومات الحد الأدنى للعودة على أرض الواقع، من خيام مقاومة أو أبنية مؤقتة.
وأشار الخضور إلى شراكات الوزارة مع مؤسسات المجتمع المحلي، حيث تم افتتاح مراكز تعليم وجاهي ضمن شراكات مع بعض المؤسسات المحلية، على أن يتم تقييم أداء الطلبة عبر تطبيق "سكول" الذي طُوِّر بالتعاون مع جامعة العلوم الإسلامية في الأردن، ويتيح الدراسة دون اتصال بالإنترنت.
تواجه وزارة التربية والتعليم عدة تحديات في غزة أجملها الخضور في نقاط، وأبرزها عدم وضوح الصورة النهائية بخصوص الأماكن التي يستقر بها الناس، حتى يتم افتتاح أماكن وجاهية تعليمية وفقًا لذلك، إضافة إلى تحديات في توفير الكتب الورقية والقرطاسية، وأجهزة التابلت لطلاب الثانوية العامة الذين سيتقدمون لامتحانات الثانوية العامة إلكترونيًا.
وأشار المتحدث باسم الوزارة إلى أن الصعوبة الأكبر تكمن في توفير الأبنية المدرسية البديلة، وهذا الموضوع هو الشاغل الحالي وله الأولوية في الوزارة نظرًا لاستخدام المدارس كمراكز إيواء للعائلات التي فقدت منازلها؛ لذلك يصعب استخدامها على المدى القريب.
وتفيد إحصاءات محلية بأنّ الحرب الإسرائيلية عملت على تدمير 293 مدرسة من أصل 307 حكومية، وحرمان نحو 630 ألف طالب من التعليم، منهم 88 ألف طالب جامعي. كما قتل خلال الحرب 15 ألف طالب، وأصيب أكثر من 22 ألفًا، وتحول 4000 إلى ذوي إعاقة.
في المقابل، تعطلت 284 مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" عن التدريس، إذ تعرضت أكثر من 70% منها للدمار أو الأضرار الجسيمة. فيليب لازاريني، المفوض العام لـ "أونروا"، صرح بأن أكثر من 600 ألف طفل في غزة يعانون صدمة ويواجهون خطر ضياع مستقبلهم التعليمي.
لمواجهة الأزمة، نظمت المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" قبل أكثر من شهر مجموعات عبر "واتساب" لتوزيع بطاقات التعلم الذاتي، إلا أن كثيرًا من أهالي طلبة المرحلة الابتدائية يجدون صعوبة في تأمين الإنترنت والكهرباء لمتابعة تدريس أبنائهم.
تروي والدة الطفلة ماريا جمال، ذات الثمانية أعوام، معاناة ابنتها التي كانت قد بدأت عامها الدراسي الأول عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية، لكنها لم تكمله، ما أدى إلى أزمة نفسية لدى الصغيرة التي كانت متحمسة لدخول المدرسة.
تقول والدتها لمراسلة "آخر قصة": "لا أستطيع شراء بطاقة الإنترنت يوميًا، فسعرها يصل إلى شيكلين لمدة سبع ساعات، ورغم ذلك تكون الشبكة رديئة جدًا، ما يمنع تحميل ملفات الـ PDF أو الصور التي ترسلها المعلمة، أضطر لإرسال طفلي الآخر، البالغ من العمر عشر سنوات، إلى ناصية الشارع لالتقاط إشارة إنترنت أقوى وتحميل المواد الدراسية."
ويواجه طلبة قطاع غزة تحديات كبيرة تعيق تعليمهم، أبرزها الانقطاع المتكرر للإنترنت، والذي إن توفّر يكون بتكلفة مرتفعة تفوق قدرة الكثير من الأسر، إلى جانب أزمة انقطاع الكهرباء وغياب الأجهزة المحمولة التي تتيح للأطفال متابعة دروسهم بانتظام.
ووفقًا لتقرير صادر عن الأونروا عام 2023، يعيش 81% من سكان غزة تحت خط الفقر، مما يجعل تأمين الإنترنت واللوازم الدراسية أمرًا بالغ الصعوبة، في ظل أولوية تأمين الغذاء والمياه وسط تدهور الأوضاع المعيشية خلال الحرب وما بعدها.
بالعودة إلى والدة الطالبة ماريا التي قالت بنبرة يغلبها الاستياء أنها حاولت متابعة تعليم طفلتها من خلال وزارة التربية والتعليم العالي، وسجلت في برنامج Teams، ثم انتقلت إلى مجموعات واتساب الخاصة بـ "الأونروا" فور معرفتها بها، كون طفلتها تدرس في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين.
لكنها ترى أن ما يجري ليس حلًا حقيقيًا، وقالت: "يجب العودة إلى التعليم الوجاهي وتوفير كل الإمكانات اللازمة في أقرب وقت ممكن، حتى لا يُحرم أطفال غزة من عام دراسي ثالث بسبب الأوضاع الراهنة."
من ناحيتها، ترى المختصة التربوية حكمت المصري أن إطلاق "أونروا" للتعليم عن بُعد جاء متأخرًا، إذ كان معظم الطلاب قد التحقوا بالفعل بمنصة وزارة التربية والتعليم، مما تسبب في ارتباك بين الأهالي والطلاب. وتصف المصري ما حدث في غزة بـ "إبادة تعليمية" متعمدة، مشيرة إلى أن إعادة العملية التعليمية إلى سابق عهدها ستحتاج إلى جهود ضخمة.
تحذر المختصة المصري من حجم الفاقد التعليمي والتربوي، مشيرة إلى أن الأطفال، بدلًا من تواجدهم على مقاعد الدراسة، كانوا يهربون من الموت، ويقضون وقتهم في تأمين احتياجاتهم الأساسية، مما أثر على سلوكهم ونمط حياتهم. لذلك دعت الأمهات إلى البحث عن مؤسسات تعليمية قريبة لإلحاق أطفالهن بها، على اعتبار أن التعليم الإلكتروني لا يكفي وحده، ما لم يتعزز بالتربية.
وانتقدت المصري وزارة التربية والتعليم و"أونروا" لتأخرهما في إيجاد حلول واقعية، داعية إلى إنشاء نقاط تعليمية رسمية للطلبة، معتبرة أن التعليم الافتراضي يفيد فئة محدودة فقط، بينما الأغلبية تعاني من ظروف قاسية تعيق قدرتها على التعلم عن بُعد.
يتنافى ما ارتكبته "إسرائيل" خلال حربها على قطاع غزة مع كل المواثيق الدولية التي تضمن الحق في التعليم للأطفال، وذلك حسب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتحديدًا المادة (13) التي تنصّ على أنّ: "الدول الأطراف في هذا العهد تقر بحق كل فرد في التربية والتعليم. وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية".
في الإطار، أكّد المحامي يوسف الحداد أن استهداف المؤسسات التعليمية جريمة حرب تندرج ضمن "الإبادة الثقافية" وفق القانون الدولي.
وقال الحداد لـ "آخر قصة": "إسرائيل استهدفت المؤسسات التعليمية دون مراعاة المبادئ الأساسية للقوانين الدولية التي تجرم المساس بالممتلكات المدنية، وتعمدت اتباع سياسة تجهيل الطلبة، وما تقوم به يعتبر في أعراف القانون الدولي جريمة حرب، تدرج تحت بند جرائم الإبادة الثقافية والتعليمية".
وعلى الرغم من توقف الحرب، إلا أن مستقبل التعليم في غزة لا يزال غامضًا، وسط مطالبات متزايدة بتوفير حلول عاجلة تعيد الأطفال إلى المدارس بعيدًا عن العقبات التقنية والمادية التي تفاقم الأزمة التعليمية.