يواجه النَّازحون الفلسطينيُّون الَّذين يحاولون العودة إلى شمال غزَّة خطر الموت التَّعسُّفيِّ أو الاختفاء القسريِّ عند نقطة التَّفتيش العسكريَّة الَّتي تحتلُّها "إسرائيل" تعرف بـ محور "نتساريم".
حيث يروي فلسطينيون ناجون أهوال "النجاة" من محور الموت" وممر العذاب والتَّشريد، حيث تفصل ستَّة كيلومترات من الأرض بين شمال القطاع وجنوبه، لتتحوَّل إلى نقطة تفتيش مشبَّعة بالخوف والقهر.
صابرين لاشين، أم فلسطينية من مخيم الشاطئ في غزة، واحدة من مئات الفلسطينيين الذين حاولوا العودة إلى ديارهم عبر معبر نتساريم. لكن كل محاولة انتهت بخيبة أمل ودماء. تقول لاشين: “النزوح المستمر والجوع والقصف دفعني لاتخاذ قرار العودة، رغم المخاطر”.
في إحدى محاولاتها الـ 12، أصيبت امرأة رافقتها برصاص الاحتلال، ومع ذلك أصرَّت لاشين على سحبها بعيدًا عن منطقة الخطر. توسلت بألا تتركها عند الجنود، ورغم تهديد الدَّبَّابات والقنَّاصة. نجحت صابرين في إيصالها إلى مستشفًى، لكنَّها لم تنج.
وفي التفاصيل، تقول المرأة البالغة من العمر (44 عاماً) لموقع ميدل إيست آي: "لا يستطيع أطفالي العثور على عمل، ولا أستطيع تحمل تكاليف الدواء الذي أحتاجه، إن النزوح المستمر والجوع والقصف والإذلال في الجنوب دفعني في النهاية إلى اتخاذ القرار الصعب بالعودة إلى الشمال، على الرغم من المخاطر".
وتقول لاشين، إن القوات الإسرائيلية بدأت، دون سابق إنذار، بإطلاق النار على الأشخاص الذين اقتربوا من الممر على أمل العودة إلى منازلهم.
وتروي لموقع "ميدل إيست آي": "أصيبت إحدى النساء، البالغة من العمر 35 عامًا، برصاصتين - مرة في الظهر ومرة أسفل صدرها"، لقد أمسكت بذراع لاشين، متوسلة إليها ألا تتركها خلفها حتى يجدها الجنود. ولم يكن أمام لاشين خيار سوى سحب المرأة باتجاه الجنوب، بينما فر الآخرون خوفًا من صوت إطلاق النار.
وبينما كانوا يتحركون، مرت دبابة فوق المنطقة، وهددت بدهس المرأة ثم خرج جندي وطلب من لاشين أن تترك المرأة خلفها، لكنها رفضت وأصرت على أنها "لا تزال على قيد الحياة".
وفي نهاية المطاف تمكنت صابرين من جر المرأة على طول الطريق حتى وصلت إلى مجموعة من الشباب الذين ساعدوا في نقل المرأة الجريحة إلى مستشفى العودة في النصيرات، ولكن للأسف لم تنجو.
كانت هذه واحدة من 12 محاولة قام بها لاشين للعودة إلى منزله في شمال غزة، ومن المرجح أنها لن تكون الأخيرة.
تؤكد في حديثها، "في كل مرة، أتمكن من الهروب من الموت بصعوبة، ولكنني أرفض الاستسلام".
ممر نتساريم: شريان حياة تحول إلى محور موت
نتساريم، الذي يمتد من الحدود الإسرائيلية إلى البحر الأبيض المتوسط، أصبح منطقة عسكرية محصنة تضم دبابات وجيبات عسكرية وطائرات مسيرة. وفقًا للتقارير، يسمح للجنود بإطلاق النار على أي شخص يقترب من المعبر، فيما وصفه الفلسطينيون بـ”محور الموت”.
الجيش الإسرائيلي، الذي أجبر أكثر من مليون فلسطيني على النزوح جنوبًا في بداية الحرب، وعد بتوفير الأمان. لكن التقارير تؤكد أن الجنوب لم يكن سوى امتداد لمعاناة جديدة، حيث تعرضت الملاجئ والمدارس للقصف. وفق التقرير الذي نشره موقع “ميدل ايست أي” البريطاني.
شهادات مروعة وعمليات قتل عشوائية
محمد حجو، فلسطيني من سكان الشيخ رضوان، قرر المخاطرة بعبور نتساريم لجلب المؤن لعائلته النازحة في الجنوب. يتذكر حجو كيف أجبره الجنود على التخلص من كل ما يملكه، وأجبروه على خلع ملابسه، قبل أن يتركوه عاريًا تمامًا. يقول: “نتساريم ليس مجرد معبر، إنه محور الموت والإهانة”.
بينما تعيش انتصار العطار، 58 عامًا، مع ألم فقدان أحد أبنائها في القصف، بينما تترقب مصير ابنها الآخر سامي، الذي اختفى أثناء محاولته العبور عبر نتساريم.
وتقول عطار إنها تقف في مكان قريب، على أمل أن يجلب لها أحدهم الطمأنينة التي تحتاج إليها بشدة بشأن مصير ابنها.
ولكن التقارير الأخيرة عن عمليات قتل تعسفية للفلسطينيين بالقرب من الممر لم تؤد إلا إلى زيادة مخاوفها.
وقالت إن "تصريحات الجنود في الأخبار مخيفة، حيث يقولون إنهم يطلقون النار على كل من يقترب من تلك المنطقة".
"أتمنى أن تتوقف الحرب حتى أتمكن من الذهاب إلى منطقة نتساريم والبحث عن ابني. إذا كان ميتاً، أريد أن أدفنه. إذا اعتقلوه، أريد أن أطمئن عليه.. لقد كان قلبي يحترق منذ أن تركني"، تقول والدموع في عينيها.
مستقبل غامض
يظل نتساريم رمزًا للمأساة المستمرة في غزة، حيث يُحرم الفلسطينيون من أبسط حقوقهم الإنسانية. ومع استمرار الحرب. يبقى الحلم بالعودة إلى الديار قائمًا، رغم الألم والخوف. تقول صابرين لاشين: “ما زلت أحلم بالعودة، حتى لو كان ذلك لإقامة خيمة على أنقاض منزلي”.
نتساريم ليس مجرد معبر، بل فصل من فصول مأساة الفلسطينيين المستمرة، حيث يتحول الحلم بالعودة إلى رحلة محفوفة بالموت والألم.
تحقيق "هآرتس" يكشف حقائق جديدة حول "ممر الموت"
في تحقيقها كشفت نقلت "هآرتس" عن الجنود والضباط الإسرائيليين الذين خدموا في "نتساريم" قولهم إن "المباني في غزة التي صُنفت على أنها منازل لإرهابيين أو مناطق تجمع للعدو لم يتم إزالتها من قائمة أهداف الجيش حتى بعد قصفها، ما يعرض المدنيين الذين يدخلونها للخطر". وأضافت نقلا عن الجنود: "يحدث هذا لأن الجيش لا يحدّث قائمة أهدافه في غزة دوريا، ولا يخبر القوات على الأرض بالمباني التي لم يعد يستخدمها مسلحون".
في شهادة أخرى، نقلت "هآرتس" عن ضابط لم تسمه تم تسريحه مؤخرا من الفرقة 252، قوله: "بالنسبة للفرقة، تمتد منطقة القتل إلى مدى ما يمكن أن يراه القناص.. نحن نقتل المدنيين هناك الذين يتم اعتبارهم إرهابيين". وتابع: "لقد حولت تصريحات متحدث الجيش الإسرائيلي عن أعداد الضحايا هذه المسألة إلى منافسة بين الوحدات، فإذا كانت الفرقة 99 قد قتلت 150 (شخصا)، فإن الوحدة التالية تستهدف 200".
وعلقت القناة 13 الإسرائيلية على التحقيق الذي نشرته هآرتس، بأنه أثبت قيام "يهودا فاخ" قائد الفرقة العسكرية الموجودة في محور نتساريم "بتحديد خط جثث لكل جندي من جنوده".
وتقول الصحيفة إن محور نتساريم الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه "ليس إلا محوراً وهمياً يتغير من وقت لآخر، بينما الجيش يقتل كل من يتجاوزه بمنتهى البساطة".
ووفقا لما أكده مراسل الشؤون العسكرية بالصحيفة يانيف كوبوفيتش، في مقابلة مع القناة الإسرائيلية، فإن عرض المحور وصل إلى 7 كيلومترات وإن الجيش أعلنه منطقة محظورة. وقال إن هذا المحور ليست له حدود واضحة ولا سياج، وإن الجيش يقتل من يقترب منه بغض النظر عن هويته. وذكر أن رجلاً وابنه كانا يرفعان الراية البيضاء في المكان، وأن الجنود أطلقوا النار عليهما رغم أن ضابطا شابا لفت نظرهم في حديث على اللاسلكي إلى أنهما ربما يكونان أسيرين إسرائيليين.
وأضاف أنهم "يطلقون النار على أي أحد، ويعتبرون كل من يركب دراجة نارية عضوا في حركة حماس" مؤكداً أن الأمر يشمل نساء وأطفالاً وشيوخاً يتم إدراجهم بشكل مباشر ضمن قائمة "المخربين".
بدوره، قال رفيف دروكر المحلل السياسي بالقناة 13 إن الحديث عن عدم معرفة رئيس الأركان وقائد المنطقة الجنوبية وغيرهم من القادة بهذه السلوكيات يثير السخرية. وكان وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي دافيد أمسالم قال للقناة الـ14 إن "صحيفة هآرتس معادية للسامية وإن بعض صحفييها يجب أن يوضعوا في السجن".
وتواصل "إسرائيل" مجازرها متجاهلة مذكرتي اعتقال أصدرتهما المحكمة الجنائية الدولية في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة.
ويأتي ذلك ضمن مواصلة إسرائيل حربها المدمرة على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مخلفة نحو 151 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة متفاقمة
وبدعم أميركي ترتكب إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية في غزة، خلّفت نحو 152 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.