في رواية "ملمَس الضوء" (منشورات المتوسط)، ثمة معرفةٌ تاريخيةٌ موثّقة، مسنودةٌ بدراية موسوعية بالمدوّنة الأنتروبولوجية الاجتماعية.
وعبر حفرٍ عميق في سجِلاّت الماضي، ومهارةٍ في استرجاع الذاكرة الوطنية، استطاعت الكاتبة الإماراتية نادية النّجار أن ترسُم بانوراما بلادها في أطوار ما قبل الوحدة التي جمعت مكوناتِها وأطرافَها وبالعلاقة مع الفضاء الجغرافي العربي والهندي، وخصوصاً في الشق التجاري، إضافة الى الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على المحيط وعلى إعادة تشكيله مع اكتشاف النفط. وهكذا امتداداً، عقداً يلي العَقد، تسبِك سبحةَ الزمن عبر تسلسل الأجيال وصولاً إلى الحاضر الحيّ.
لو اكتفينا بذلك لظنّ القارئ أنّنا نتخدث عن رواية تاريخية. نعم، التاريخ مادةٌ خصبةٌ فيها ومن أعمدتها، لكنه ليس مبتغاها ولا هي تجعل منه خطَّ سيْر لسرد المحكيّات الروائية وبؤرةِ الأفعال والأحداث.
دلالة مفارقة
الشخصية المركزية في استهلال الرواية: "أفتح عيني. لا شيء يتغير. أُغمِضُهما. لا شيء يتغير. يتشابه يومي، وأمسي، وعلى الأرجح غدي"(ص9). نور الكفيفة تمسك بزمام السرد ومن صوتها وإحساسها تتوزعُ الأدوارُ، انطلاقاً منها يتعدّد الساردون والشخصيات، لبلورة أول دلالةٍ مُفارقةٍ أنَّ غيرَ المبصر (الأعمى) هو من يقود المبصرين بداية وإلى النهاية.
الرواية هي أولاً ليست مبذولةً طيِّعةً كما في السرد التقليدي، تحتاج من القارئ إلى وقفات ورِجعاتٍ والمرورِ بمنعرجاتٍ وقدرةٍ على الربط وإعادةِ الحبك لمادة السيرة الخبرية وخيوطها، ما دمنا مع قصة أجيالٍ وحِقبٍ زمنية تمتد من 1927 إلى 2022.
نبدأ من نورة التي تعيش في كنَف جدها سالم بن ناصر وأمّها في بيت غادره الأب مع زوجة أخرى. نورة هي مركز الوسط العائلي بنمط حياتها كما تعيشها بين ثلاثة أطراف: الجدُّ ملاذُها اليومي والدائم في البيت، وخادمتها الفليبينية، وابنُ عمّها سيف، وطرفٌ رابعٌ هاتفُ أيفون هو عينُها مُزوَّدٌ برنامج ( Seeing AL) ينقل إليها صور أيِّ مكانٍ توجد فيه.
تمضي حياتُها بين قراءة الكتب المطبوعة بطريقة برايل، ولقاءات ملتبسة بإبن العم، وهواجِسها اللانهائية وخصوصاً سماع حكايات الجد. منها ننتقل إلى الماضي البعيد حيث تبدأ القصة الجذر، جدّ سالم، نهاية الثلاثينات خلال الحرب الكونية الثانية، في خُور دُبيّ وهي بلد بسيط ميناءَ صيدٍ ومركز تجاري تصل إليه البضائع من كل اتجاه، ويرحل فقراؤه إلى حواضرَ مجاورة أو أبعد مثل جزر البحرين والمنامة قلبُها. هنا نتابع في الحقيقة قصة/ رواية ثانية موازية، ومتعالقةً بالأولى، تتبدّى في النهايات، ونحن القراء علينا إقامةُ الجسور، وهنا يكمن بعضُ معوقات حبكة هذا العمل.
انتقل عليّ من دُبي بعد حادثة حريق بيت الأهل وفاجعة موت أخيه المتوحِّد عبّود إلى المنامة بحثًا عن الرزق، ووجده في الشركة الإنكليزية لاستخراج البترول وهي البدايات، نتعرّف على تحوّلٍ جديدٍ في هذا البلد ووضعِ العمال الهشِّ وسيطرةِ الأجنبي.
ثم تتحول حياة علي مصادفة ليعمل مساعداً في تجارة وافرة لناصر بن سالم ويصبح ساعدَه الأيمنَ، وتسري جاذبية بينه وبين البنت الوحيدة للتاجر، تُمنى بخذلانٍ لدى زواجها من غيره، وتنتهي نهايةً سعيدةً بلمّ شملهما بعد طلاقها.
![](https://www.annahar.com/Assets/UserFiles/Images/Maya/thumbnail_IMG_4675%20%D9%85%D9%84%D9%85%D8%B3%20.jpg)
مذكرات
تأبى نادية النجار إلا سلّ فرع بعيد من شجرة أنساب الرواية. أمّ البنت المعشوقة سارة هي مصرية قبطية اقترن بها الأب ذاتَ رحلةٍ وعادت تعيش في بيئة غريبة عنها، تاركةً وراءها مذكرات أملتها عام 1927 تروي فيها تاريخ عائلتها وعلاقاتِها الاجتماعية وانطباعاتِها عن المحيط ومثله.
هي الجدةُ الأبعد لنور التي تتسلم الأوراق من جدّها ويتولى ابن العم سيف قراءتها في خُلوة المقهى دائماً برفقة الخادمة الوصيفة.
هذه الأوراق، هي مذكرات، لكنها أيضاً منجم معلومات، وهي بمثابة السارد الثالث، بعد نورة وعلي. تكشف أوضاع ما قبل الأمارات المتحدة في حقبة الثلاثينات، دائماً من بؤرة شخصيةٍ، ذاتية لها حياتُها ومتفاعلةٍ مع محيطها متقاطِعة. ثلاثةُ أجيالٍ من شجرة أنساب سلالة عركتها المِحن لتبلغ ذُرى الوحدة والقوة في الزمن الحديث.
أتوقف في عرضي لحكاية الرواية عند هذا الحد محتفظاً ببقيتها وتفاصيلها لأحرِّضكم على قراءتها، وهي ضروريةٌ لمحبي هذا الفن، ولأنها جديرةٌ بها تحوز كاتبتُها مهاراتِ السرد، والبناءِ، ووصفِ الشخصية، واستبطانِها، ووضعِها في صُلب الحدث مؤثرةً ومتأثرةً، بجدل. بل أكثرُ منه، لارتيادِها فضاءاتٍ وتحسُّسَها لمشاعرَ تُعنى بها الروايةُ على الصعيد الإنساني.
لقد نهضت على وقائعَ واعتمدت سِناداتِ التاريخ واغتنت بثقافةٍ أنتروبولوجية سعت بها إلى التأريخ لكيانٍ وطنيٍّ وبالتسلسل إلى تأصيله بتجسيد مقوماته، شاغلُها الأساس، من قلب السيرة العائلية، هو كيانيةُ الفرد.
ومع هذا فالبطولة ليست لـ"الأنا" ولكن للفعل، نعم لا بد له من فاعل، إنما تمَّ تشخيصه حيّاً ومستقلاً تقريباً عن صاحبه، لتنقلنا الكاتبةُ والساردةُ بأداة الأفعال إلى منطقة الحواس، هنا حيث يتحوّل (العمى) بمعنى (الميتامورفوز) صنيعَه عند كافكا ويمارس بحواسٍ أخرى (الشمّ، السّمع، وأهمّها اللمس، منه العنوان الباهر، المفارق والاستعاري المناسب للتحويل" ملمس الضوء")؛ وبوسائط تقنية/ تكنولوجية (برامج التواصل الاجتماعي، نجد لها هنا استخداماً وظيفياً في حياة الشخصية لا تزيينياً، وهو إدراجٌ مُحدثٌ في الرواية العربية مثلُه قليل يخدم رؤيةَ العمل، ككل).
بإمكاناتها ووسائطها نصل إلى استخلاص أن تيمةَ الرواية هي "النقصان". بقوته تخوض (نورة) غمار حياتها وتنتصر على العمى، على غرار المعرّي، وبورخيس، وساراماغو، وقد قُلبت عندها العلاقات ووظيفةُ الحواس (التحويل).
إذاً، العُمْيُ هم المبصرون، والكمال نقصان. لا يوجد الأدب إلا لأنه يدرك هذا العطب ولن يُشفى منه وإلا زال فيحتاج الى ما يحرّضه على البحث. هي المسيرة الشاقة لعلي وناصر بن سلام، وبن سلام، والطريق الطويل الذي سارت فيه قبائلُ وقوى وأفرادٌ في أرض الخليج العربي حتى أثمرت وتحولت، ووصلت إلى جيل نورة المختلف. تحصيل حاصل، أن نادية النجار استخدمت شبكةً معقدةً من طرائق السرد والبناء والتشخيص وغيرها لكي تجعل "ملمس الضوء" مختلفاً: تقسيماتٌ، أبواب، وفصول، وصور، ومذكرات، وعناوين فرعية تربك القراءة، وتنزع إلى لزوم ما لا يلزم والشرخ عوض الخطّيّة والمعمار المتسق، وبتوليد مفرط للمحكي من بعضه، في نهج حداثة تثقل كاهل الرواية من حيث تُجددها.