تجمّع آلاف حول سجن صيدنايا بانتظار الحصول على خبر عن أقاربهم. ومن لم يعثر على مفقوديه بين أسماء السجناء الذي خرجوا أو ماتوا في السجن أو عبر مقاطع الفيديو التي تم تداولها بكثرة، تعلّق بالقشة الأخيرة، وهي السجون "السرية" التي كثر الحديث عنها في الأيام الأخيرة، وقال ناشطون إنها موجودة تحت الأرض و"مدفونة". ولكن لم يتم العثور عليها.
قضى سجناء أكثر من 40 عاماً في سجون بشار الأسد، إلا أن دموع أهاليهم وأقاربهم لم تجف يوماً على أمل اللقاء بأحبائهم، وإن طال الزمن.
ذلك الأمل لم يضمحل، رغم قساوة المشاهد وكثرة الأخبار التي كانت تصل من داخل السجون وتعبّر عن وحشية لا مثيل لها، حتى بات خروج المعتقل حياً معجزة حقيقية. واليوم، بعد سقوط النظام السوري وتحرير المعتقلين، تجددت آمال مئات العائلات التي أمضت سنوات في البحث عن مصير أحبائها المغيّبين قسراً، مأخوذة ببشائر خروج كثيرين ممّن كان مصيرهم مجهولاً.
لكنّ ذلك لم يحل دون وقوعهم في ضياع جديد، بعدما غصّت مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف الأخبار المتناقضة والشائعات، منذ اليوم الأول لسقوط النظام، حتى وصل الأمر ببعض الصفحات إلى نشر عشرات اللوائح لأسماء مختطفين ومفقودين سوريين ولبنانيين ومن جنسيات أخرى.
معلومات عشوائية
"اختطف عمي جوزيف نزيه زرقا على طريق فالوغا- حمانا في 3 آذار 1983 عندما كان في طريقه إلى زحلة"، يقول الشاب جوزيف الذي يبحث عن عمه، كما يبحث آلاف من اللبنانيين والسوريين الذين فقدوا أحد أقاربهم ووصلتهم معلومات سابقا أنهم في السجون السورية. ينشر "ستوري" عبر صفحته على "إنستغرام" مستعيناً بالصفحة الشهيرة "عديلة" التي يتابعها ملايين، والتي فتحت حسابها لنشر معلومات عن المعتقلين، فتوالت التعليقات ممن ينتظر أي معلومة حتى لو بسيطة، لمحاولة الاطمئنان إلى مصير المعتقل أو معرفة أي معلومة عنه.
يقول جوزيف في حديثه لـ"لنهار" إن عمّه كان يبلغ 17 عاماً فقط عندما اختطف. ومنذ ذلك اليوم لم يتمكّنوا من الحصول على أي معلومات متعلقة بمصيره ولا حتى عن مكانه، حتى أن الدولة اللبنانية لم تقدّم مساعدة تُذكر لمساعدتهم. أما اليوم، فقد تواصلوا مع جهات عدة، منها الصليب الأحمر اللبناني والجيش اللبناني، إضافة إلى أفرعة أمن الدولة على الحدود بين لبنان وسوريا.
وعن اللوائح التي انتشرت عبر مواقع التواصل، يقول إنهم لم يروا اسمه في أي قائمة، وحتى في التعليقات الواردة تحت المنشورات: "لا نعرف عنه شيئاً حتى الآن".
في غضون ذلك، نشر أحد الحسابات عبر موقع "تيك توك" مقطع فيديو يبحث فيه شاب سوري عن شقيقه، عبر نشر صورته عندما كان شاباً، وإضافة المعلومات التي يملكها عنه عند اختطافه، مستجدياً وهو يبكي علّ أحد متابعيه يعرف عنه شيئاً. إلا أن التعليقات كانت بأغلبها "تحليلات" أو معطيات غير مؤكدة.
أحد التعليقات قارن بين ملامح وجه المفقود وملامح وجه رجل خرج من المعتقل أخيراً، وظهر في لمحة بمقطع فيديو على إحدى وسائل الإعلام.
تعليق آخر كتبه أحد المتابعين وفيه: "هيدا مات". وعندما سأله حساب آخر عن مصدر المعلومة التي بدا متأكداً منها، قال إنه سمعها من آخر عبر مواقع التواصل الاجتماعي أيضا. هنا ردّ عليه كثيرون بضرورة عدم نشر الشائعات، والتأكد من أي معلومة قبل نشرها لمدى تأثيرها على عائلة المفقود، وكيف يمكن أن يتلقوا التعليقات في هذه الفترة الحساسة جداً.
امرأة تنتظر معرفة معلومات عن أحد أقاربها في حلب (أ ف ب).
قصة مازن حمادة نموذجاً
حالة انسانية أخرى. كثيرون يعرفون من السوريين مازن حمادة، وهو الذي كان ناشطاً حقوقياً من مدينة دير الزور. برز اسمه في أعقاب مشاركته في الاحتجاجات المناهضة لنظام بشار الأسد خلال أحداث الربيع العربي في عام 2011. اعتقلته السلطات السورية، حيث قضى أكثر من عام ونصف العام في السجن وتعرض لأسوأ أنواع التعذيب. وبعد إطلاق سراحه، اختار المنفى وسافر إلى هولندا. إلا أنه عاد إلى سوريا عام 2020 ليُعتَقل مجدداً. هذه المرة، أصبح ضحية جديدة للاعتقال والتعذيب.
وخلال الأيام التي تلت سقوط النظام، نشر ناشطون أخباراً متضاربة عن مصير حمادة، حتى انتشرت صورته وهو جثة هامدة تعرّضت للتعذيب والحرق بمادة الأسيد، بحسب المعلومات المتداولة. وكانت بين عشرات الجثث في سجن صيدنايا. ورفض كثيرون تداول الصورة الـ"مؤذية جداً"، وطلبت العائلة عدم نشر معلومات عن مازن أو صورة الجثة قبل التأكد منها رسمياً. وعاشت ساعات من القلق والترقب، قبل أن يتم التأكّد أخيراً من الجثة وتسليمها إلى العائلة.
انتظار طويل بلا بارقة أمل
بدورها، تنتظر عائلة رئيف فؤاد داغر عودته منذ اختطف من منزله في منطقة عبرا في صيدا اللبنانية عام 1990، تاركاً وراءه زوجته و4 أطفال، وفق فؤاد داغر، ابن أخيه. ويقول في حديث لـ"النهار" إن العائلة لم تسمع خلال هذه الفترة التي امتدّت لنحو 35 عاماً أي معلومات عن رئيف، ولم تساعدهم الدولة اللبنانية ولم تتعاون معهم، كما أنهم تابعوا أخبار المحرّرين عبر مواقع التواصل. إلا أن لا معلومة مؤكّدة عنه، ولا ذكر لاسمه في أي مكان حتى الآن.
ابن عكار ليس هو
الى عكار. مباشرة عقب سقوط حماة وخروج المعتقلين، تداولت وسائل إعلام لبنانية وعربية خبراً عن خروج المعتقل علي حسن العلي من بلدة تاشع العكارية، والذي كان معتقلاً في السجون السورية منذ 39 عاماً، مع نشر صورة له عقب خروجه من سجن حماة، قبل أن يؤكّد رئيس البلدية نايف الموري خبر تعرّف العائلة عليه، علماً أن العلي عرّف عن نفسه وقال لمن قابله إنه من بلدة تاشع العكارية.
إلا أن مختار البلدة خالد عبداللطيف الموري أبلغ "النهار" بأن شقيق العلي ذهب عبر الحدود السورية – اللبنانية إلى حماة بعد التواصل مع الأمن العام اللبناني وجهات مختصة، وبقي فيها لأيام. ولكن للأسف، فوجئ بأن الرجل ليس أخاه الضائع، رغم تداول ناشطين خبراً مفاده أنه التقى بعائلته.
وبعدها أيضاً خرج الرجل في فيديو مع من كان قد صوّره عند خروجه من السجن، مؤكّداً أنه لم يقل إنه من عكار اللبنانية، لتعود العائلة إلى القلق بانتظار خبر آخر، بعدما كان الأمل طغى على أجواء العائلة التي كانت تحضّر لاحتضان نجلها بعد سنوات من الانتظارالمرير.
شائعات عن الإمام الصدر
حتى الشائعات طالت رمزا دينيا كبيرا. فور خروج المعتقلين من سجن صيدنايا، تداول ناشطون بياناً مفصّلاً منسوباً إلى أهالي المساجين مفاده "التوصل إلى معلومات تفيد بأن السيد موسى الصدر لا يزال حياً يُرزق هناك. ومع ذلك، لم يتمكن الثوار حتى الآن من الوصول إلى الطابق الثالث حيث يُخفي بابٌ مخفي السيد الصدر". ودعا البيان المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان إلى التدخل والتحقيق في هذه القضية، والعمل على كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن هذه "الانتهاكات الجسيمة".
وقد حصل هذا البيان على مئات التعليقات من محبي الصدر، فرحين بالعثور عليه، لتخرج عائلته أخيراً وتردّ على ما وصفته "بعدم مصداقية الأخبار المتداولة"، مؤكّدة أنها أخبار "ليس لها أساس أو مصدر معقول أو معروف".
وقالت إنها "على قناعة تامة بأن الإمام وأخويه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي الأستاذ السيد عباس بدر الدين، هم قيد الاحتجاز في مكان ما في ليبيا، كما بيّنت التحقيقات القضائية".
معلومات متضاربة عن سجون "مدفونة"
والى جانب أخبار عشوائية طالت المفقودين، كانت لسجن صيدنايا العسكري السوري حصة منها. فقد تجمّع آلاف حوله بانتظار الحصول على خبر عن أقاربهم، ومن لم يعثر على مفقوديه بين أسماء السجناء الذي خرجوا أو ماتوا في السجن أو عبر مقاطع الفيديو التي تم تداولها بكثرة، تعلّق بالقشة الأخيرة، وهي السجون "السرية" التي كثر الحديث عنها في الأيام الأخيرة، وقال ناشطون إنها موجودة تحت الأرض و"مدفونة"، ولكن لم يتم العثور عليها حتى الآن.
سيل من الأخبار والشائعات رافقت الخبر واعتبرت بأغلبها غير موثقة من مصادر رسمية، إضافة إلى تعليقات عن أشخاص سمعوا في السابق بوجود سجن سري لدى النظام. وتطورت هذه الشائعات ونتج منها "هاشتاغ" يدّل طواقم الدفاع المدني السوري على مكان السجون. وهو ما نفته منظمة "الخوذ البيضاء" في بيان رسمي أصدرته وأعلنت فيه انتهاء عمليات البحث في سجن صيدنايا، حيث كانت تشتبه في وجود زنازين وسراديب سرية غير مكتشفة، من دون العثور على أي معتقلين إضافيين، نافية بذلك كل الترجيحات المتداولة، مغلقة بابَ أمل جديداً تعلّق به الأهالي.
محاولة البحث عن معتقلات سرية تحت سجن صيدنايا (أ ف ب).
بيع أوهام
ثمة ثلاث جهات يمكن الحديث عنها في مسألة بيع الأوهام المنتشرة بكثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً في ما يتعلّق بالمخابئ "السرية" في سجن صيدنايا، بحسب الناشط السياسي السوري حسام القطلبي.
ويقول لـ"النهار" إن هذه الجهات هي "أولاً الأهالي والجمهور الذين انتظروا أحبتهم لوقت طويل ولم يتقبلوا بعد فكرة عدم العثور عليهم بعد عودة الأمل مرة أخرى، ثم فئة النشطاء الحقوقيين الذين استفادوا من هذه الظاهرة بسبب سوء فهم بالغ بالشأن الحقوقي السوري أحياناً، إضافة إلى الجهات الإعلامية رغم أن المختصين قالوا منذ البداية إنهم يعرفون خرائط السجن وفق متابعة لسنوات. إلا أن وسائل الإعلام تجاهلتها لأسباب ربما تتعلق بنسبة المشاهدة واللحاق باهتمامات الجماهير في هذا الوقت أو لأجندات سياسية".
ويتحدث القطلبي عن "حالات كثيرة جداً جرى عبرها اختلاق العديد من القصص غير الواقعية، وهو ما يلحق ضرراً كبيراً خصوصاً بالأهالي الذين تم تضليلهم وإعطاؤهم وعوداً كاذبة، إضافة إلى أن هذه الأوهام لا تخدم القضية الأساس. فالحقيقة كافية بل كافية جداً لإدانة النظام. نحن أمام جرائم غير مسبوقة في التاريخ المعاصر مع توثيقات عدة تثبت صحتها. وهذه العشوائية في نشر الشائعات تضر بمصداقية الضحايا والمعذَّبين، خصوصاً عند محاولة إثبات التعرض للتعذيب وإدانة الجاني عبر القانون، فقد يستخدم المدافعون عن الجاني هذه الأدلة ضد المجني عليه".
أكثر من 600 عائلة لبنانية تنتظر
بسبب كثرة الشائعات وتداول الأوهام الزائفة خلال أيام قليلة فقط، نشرت جمعية "لنعمل من أجل المفقودين" اللبنانية دعوة إلى التحلي بالصبر والحكمة في التعامل مع قضية المفقودين لمنع إلحاق الضرر بالأهالي، جاء فيه: "يتطلب الوضع الحالي في سوريا المعقد للغاية وقتا لتتمكن المجموعات المحلية واللجنة الدولية للصليب الأحمر والجهات الرسمية كالهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً في لبنان من جمع المعلومات الدقيقة وتأكيدها. ندعو الجميع إلى تفهم حساسية هذا السياق والحاجة الملحة إلى الدقة والصبر. بناءً على ذلك، لن تقوم جمعيتنا بنشر أي معلومات غير موثوقة أو مستندة إلى مصادر غير رسمية".
وأضافت: "علينا أن نكون صادقين وأن نعترف بالحقيقة المؤلمة بأن العديد من العائلات قد لا تستعيد أحباءها. التكهنات الإعلامية والتصريحات المبكرة تعرض هذه العائلات لخطر الأمل الزائف والتعرض للصدمة النفسية مجدداً".
وسط هذه المعاناة الأليمة والانتظار الطويل جداً، يجد أهالي المختطفين أنفسهم عالقين مجدّداً بين وعود غير مؤكدة وشائعات طغت على المعلومات والوثائق المؤكدة. ففي لبنان مثلاً خرج حتى الآن 9 معتقلين بحسب تصريح وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي.
أما من ينتظرون أحباءهم، فهم أكثر من 600 عائلة لبنانية، بحسب منظمات حقوقية، ما دفع بالعديد من الجمعيات للمطالبة بالتنسيق مع الجهات الرسمية فقط لمعرفة تفاصيل إضافية وقطع الشك باليقين. فالواقع صعب جداً إذا لا يثق هؤلاء بالدولة ومؤسساتها التي لم تفعل شيئاً على مرّ سنوات طويلة لاستعادة أبنائهم، ليحاولوا البحث عنهم مجدّداً عبر وسائل عدة قد يحمل بعضها عواقب وخيمة.