لم يعد أمام سعاد صلاح في أواخر العقد الثالث من عمرها، خياراً غير إحراق مكتبتها الخاصة لأجل إشعال النار تحت موقد الحطب. تنفخ السيدة أسفل قدر حساء العدس، ويحجب الدخان الرؤية، فتشيح بيدها محاولة إزاحة الدخان عن وجهها.
تتراجع سعاد التي تُقيم في خيمة بحي الصفطاوي شمال مدينة غزة، للوراء قليلاً وهي تمسح دمعها، بينما تتحسس يديها كتاباً يحمل عنوان "التربية الوطنية للصف/ الرابع".
وتقول إنّ هذا "آخر كتاب تبقى من رزمة مكتبتي والكتب المدرسية الخاصّة بأطفالي، لقد أحرقت أكثر من خمسين كتاباً من أجل صناعة الخبز وإعداد الحساء، في ظلّ غلاء أسعار الوقود وانعدام غاز الطهي".
وتضيف سعاد التي أنهت دراسة الماجستير في علم النفس التربوي، أنّ قلبها الذي يحترق لا الورق، وأنّها مرغمة على فعل ذلك، خصوصًا بعدما حوّلت الحرب والحصار المفروض على غزة، الثقافة والتعليم وقراءة الكتب إلى تَرف.
تُغلق سلطات الاحتلال الإسرائيلي معابر القطاع منذ الثاني من مارس الماضي، وتمنع إدخال أي من المساعدات أو أي من مشتقات الوقود للسكان المدنيين الذين يرزحون تحت نير الحرب منذ عامٍ ونصف تقريبًا.
في معادلة قاسية بين الجوع والمعرفة، يجد الكثير من سكان قطاع غزة أنفسهم مضطرون لإحراق الكتب واستخدامها في إشعال مواقد الطهي وأفران الطين، بديلاً في ظلّ انعدام الوقود وشُح الحطب.
ولم يجد النازحون الغزيون بُداً من اللجوء إلى هذا الخيار القاسي، محوِّلين بذلك التراث العلمي والثقافي وذكريات الماضي وخراطيش الطفولة إلى رماد تحت قدور الطعام.
أصيبت بتول سعيد (21 عامًا) بالدهشة حين عثرت على بائع رسائل علمية عليا (ماجستير- دكتوراة) تُباع على أنّها أجود أنواع الأوراق للاستهلاك في الحرق.
بتول، وهي طالبة جامعية ومولعة بقراءة الكتب والروايات، قالت في حديثٍ لـ "آخر قصة": "لم أصدق عيني وأنا أرى الكتب، يُدَلَل على بيعها لاستخدامها في المواقد، لقد ذهلت، لذا اشتريتها جميعًا وحملتها معي في رحلات نزوحي".
تقرّ بتول المنغمسة في قراءة الأدب العربي، والشعر، والروايات العالمية المترجمة، بانعدام الخيارات أمام السكان، لكنّها تقول: "أنا لا يمكنني أن أرى جهدا بحثيا كهذا (تقصد الرسائل العلمية) الذي استغرق وقتا طويلاً في إنتاجه، ليحرق بهذه الطريقة، هذه في نظري كارثة لم تسجل في قائمة كوارث الحرب".
في المقابل، يقول الشاب حسام عبد الكريم (23 عاماً) من الصعب أن تحصر إنسانًا في الزاوية المُعتمة ثم تطالبه بالموازنة بين قيمة الكلمة المكتوبة وحاجة الجسد إلى الطعام؟، بالتأكيد سيفضل الطعام لأنّه يُبقيه على قيد الحياة على الأقل.
يضيف عبد الكريم الذي لم ينه بعد دراسة الهندسة "حين ينعدم الحطب والسولار وترتفع أسعار الوقود إلى عنان السماء، تصبح تلك الصفحات المليئة بالعلم والأدب والتاريخ رفاهية، يسهل التخلي عنها في سبيل لقمةٍ تسدّ الرمق".

في ظلّ انخراط أكثر من 90% من سكان قطاع غزة في قافلة الفقراء الذين يعتمدون على المساعدات الإنسانية في تغطية احتياجاتهم الأساسية من الطعام والشراب، يصبح للدولار قيمة كبيرة، وهو سعر كيلو الحطب الواحد.
فما بالك عندما يصبح سعر كيلو غاز الطهي، (80 دولاراً) في السوق السوداء، في الوقت الذي كانت تباع فيه أسطوانة الغاز زنّة 12 كيلو (8 دولارات). فتلك قيمة تُعدّ الأغلى على مستوى العالم، لا يستطيع كادحي غزة تحملها.
ينظر الكاتب والروائي يسرى الغول إلى عملية إحراق الكتب من أجل إشعال مواقد الطعام، آخر الخيارات أمام السكان الذين يرزحون تحت الحرب منذ السابع من أكتوبر 2023.
وقال الغول: "هذا ليس جهلاً، فلم يعد أمام المواطن الفلسطيني في غزة من بدائل بعدما حرم من كافة احتياجاته بما في ذلك غاز الطهي، لذلك أنا لا أستطيع أن ألوم شخص يُفاضل بين أن يُشعِل النار بالكتب أو بالأثاث، ففي نهاية المطاف تلك غريزة البقاء".
من وجهة نظر الكاتب فإنّ الاحتفاظ بالكتب تصبح ترفاً في نظر الكثير من الفقراء الذين لا يملكون حطبًا ولا وقودًا لصناعة طعامهم، ومع ذلك قال: "لا زلنا نكتب ونوثق للتاريخ".
ويشكِّل الحصار الذي يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة بالتزامن مع حالة الحرب القائمة، انتهاكاً للقوانين الدولية التي رَعَت حقّ المدنيين في مناطق النزاع بالحصول على الطعام والشراب بما في ذلك الوقود.