شعور بالعجز يتملك الباحثين والمثقفين الفلسطينيين في قطاع غزة، والذين كانوا يجمعون زادهم المعرفي من على أرفف المكتبات العامة. بعدما فقدوا تلك المكتبات وصارت الأوراق رماداً تحت كتل الحطام.
لا توجد أرقام دقيقة حول عدد المراجع البحثية التي أحرقت خلال الحرب وفقدت بفعل هدم وتدمير المكتبات، غير أن المركز الفلسطيني للإحصاء يقول 87 مكتبة تعرضت للتدمير سواء شكل كامل أو جزئي في قطاع غزة.
وتغلب الصدمة النفسية الشابة أمل الوادية (27 عامًا)، على ضوء مشهد حرق الكتب والمراجع العلمية الذي عاينته خلال الحرب.
الوادية الحاصلة على بكالوريوس اللغة العربية والإعلام، باحثة في مجال اللغة العربية وهي زائرة شبه يومية للمكتبات العامة، وشغوفة بقراءة كل مراجع النحو الصرف. تجد نفسها اليوم فقيرة من الزاد المعرفي بعد إحراق وتدمير المكتبات.
تقول الفتاة والدموع تغلبها "خسارتنا كبيرة ولا يمكن تعويضها خصوصا نحن الباحثين والمنقبين عن المعرفة بين المراجع التقليدية وأروقة المكتبات ".
في مشهدٍ لا يزال يطارد ذاكرة سكان غزة، تعرّضت مكتبات المدينة التاريخية والتعليمية لدمارٍ شامل خلال الحرب الإسرائيلية، محققة خسارة فادحة للتراث العلمي والثقافي الفلسطيني.

يقول سامح عبد المنعم (34 عاماً) وهو باحث في علم التاريخ والأثار، إن الكتب لم تكن مجرد أوراق، بل كانت ذاكرة شعبٍ ومصدر إلهامٍ لطلبةٍ حُرموا فجأةً من مصادر معرفتهم".
وأوضح عبد المنعم الذي توقف قسرا بسبب الحرب عن إكمال دراساته العليا، أن غزة فقدت مراجع علمية وثقافية هامة وكبيرة نتيجة تدمير واحراق المكتبات، وبذلك يفقد الباحثون كنزا معرفياً لا يمكن تعويضه.
وقد جاءت الحرب على مئات آلاف الكتب في قطاع غزة، أثر تدمير عدد من المكتبات العامة. مكتبة الجامعة الإسلامية وحدها والتي كانت تضم حوالي 240,000 كتاب ومراجع علمي، دمرت. فيما فقدت مكتبة ديانا الصباغ -مركز رشاد الشوا الثقافي- أكثر من 50,000 كتاب باللغتين العربية والإنجليزية. أما مكتبة مركز هولست الثقافي ففقد أكثر من 5,000 عنوان، بالإضافة إلى مصادر صوتية ومرئية.
في ظلّ النزاعات المسلحة، تعتبر حماية التراث الثقافي قضية ذات أولوية عالية، وفقًا لاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في أوقات النزاع المسلح، والتي قالت إنه يجب على الأطراف المتنازعة اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المواقع الثقافية والمكتبات.
لكن في الواقع، يبدو أن القوانين الدولية لم تُنفذ بشكل كافٍ في غزة، حيث تعرّضت المكتبات للمداهمة والتدمير. وبحسب حقوقيين فإنّ هذا التدمير ينتهك حقوق الأفراد في الوصول إلى المعرفة والعلوم، ويعرض إرثًا ثقافيًا لا يمكن تعويضه للخطر.
محمد أبو ستة، الذي يعمل مرشدا في المكتبة المركزية للجامعة الإسلامية منذ ربع قرن، وصف تدمير المكتبة وحرق محتواها بالكارثة الثقافية.
وقال أبو ستة: "لم نفقد فقط كتبًا، بل فقدنا تاريخًا عريقًا. أذهب بين الحين والآخر إلى الجامعة المدمرة، وأرى الكتب بين النازحين، فأشتريها فورًا حتى لا يكون مصيرها مواقد الطهي".
ويُقدِّر أبو ستة عدد الكتب المفقودة والمحترقة بحوالي مليون نسخة، تشمل روايات، مراجع علمية، أطروحات دكتوراه وماجستير، تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات.
وعدا عن أن حرق وتدمير المكتبات العامة، يشكل انتهاكا للحق في المعرفة، إلا أنه يشكل عبء نفسياً بالنسبة للقراء والباحثين. وقالت أستاذة اللغة العربية عائشة عمران، إن احراق الكتب يفاقم معاناة الباحثين وبخاصة في ظل تدمير البنى التحتية بما في ذلك الكهرباء والانترنت.
وأوضحت عمران التي تكمل دراسة ا لدكتوراة عن بعد، أن المكتبات كان من الممكن أن توفر مساحة أمام الباحثين للوصول إلى المراجع التقليدية في ظل محدودية الوصول إلى الانترنت، لكن مع تدميرها المتزامن مع إعاقة الوصول للأنترنت والكهرباء، تعقد الأمر كثيراً وزاد العبء عليهم كباحثين.
وقالت: "في الواقع تحيطنا التحديات من كل اتجاه، أصبحنا محاصرين فكريا وثقافيا، ناهيك عن الجوع والفقر وانعدام الاحتياجات الأساسية، وهذا كله يجعلنا في نعيش صراعا داخلياً لا يعرف عنه العالم شيئاً".
ويشير العديد من الأكاديميين في قطاع غزة، إلى أن تدمير المكتبات سيؤدي إلى تأخير برامج الدراسات العليا والأبحاث العلمية، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مستقبل التعليم العالي في المنطقة.
تحاول المختصة النفسية فلسطين ياسين، تفسير الحالة النفسية التي من الممكن أن يعيشها الباحثون والطلبة في ظل تعقيدات الواقع العلمي وتحديداته وبخاصة في ظل الحرمان من المكتبات والمراجع المعرفية، بأنها شكل من أشكال الصدمة النفسية، حيث أن الواقع يجعلهم يعيشون غضبا وحزنا عميقا قد يتزايد مع الوقت.
وأشارت المختصة ياسين إلى أن شعور الإنسان بأنه محاصر ومقيد ومحروم من مختلف الحقوق بما في ذلك الحق في التعلم، يجعله عرضة لاضطراب القلق، لذلك أوصت الطلبة والباحثين بضرورة الانضمام إلى جلسات دعم نفسي لإدارة مشاعرهم السلبية، والمشاركة في مشاريع رمزية مثل إعداد مكتبة صغيرة كوسيلة لتعزيز شعورهم بالسيطرة.
من هنا، تصبح حرق المكتبات، ليس مجرد انتهاك قانوني، بل فعل عدائي حول المعرفة إلى ضحيةٍ ثانوية في حرب أكلت الأخضر واليابس.