وضعت الحرب أثقالها، ودخلت الثامنة والنصف صباح يوم الأحد إلى ذاكرة كل غزي بقي حيًّا الآن، أو وفق التصنيفات للأفعال: "نجا، صمد، ثبت، انتظر، انكسر، بتر".
دخلت إلى ذاكرة الغزي بعد أيام راوحت فيها ملامح الأمل والنهاية لأيام. الأمر إن جاز إيجازه أو إسقاط وصفٍ لغوي للحالة فهو الحالة المتمثلة في نصّ (انتظرها) لمحمود درويش.
"وانتظرها" نهاية الحرب، إن جاز القتل نهاية القصف، لأن حروباً أخرى قد تنبت بعد ذلك، المهم "انتظرها" كان أملاً عالقاً في بال كل غزي وفق فعل الأمر "وانتظرها" ثم ما لبث أن يفقد الأمل "ولن تأتي" لقد بذل جهد الانتظار في بال الغزي، بما اتسع للنصّ احتماله، إذ هيأ نفسه كل ملامح الانتظار التي حاكها النص كل يوم وكل لحظة ينام، يصحو، يغفو، يقف، وينتظر أمام الاحتفالات المنتظرة، ثم لم تكن لتأتي هذه اللحظة وها هي أتت اليوم، لكن فعل الشقاء في الانتظار يقابله أو يعادله فعل شقاء أكبر الآن.
دخلت الثامنة والنصف صباحاً يومها كما دخلت السادسة صباح السابع من أكتوبر بداية الدخول في دوامة الحرب تلك، بارتجافة القلب، اختلاط مشاعر. ترقب، انقجار، ابتهاج، حزن ممزوج، لو خُيِّر لي أن أصف مشهد الشعور للغزي خلال لحظتي البداية والنهاية لاختصرت في صور منها جسدًا يحمل بيمينه حلوى شهية، ويسار جسده كله من شوك وعلقم، وعليه أن يفرح بما بيمنيه ويألم ليساره بما فيها من شوك، وربما صورة أخرى تخطر أنّ جسداً يحمل الحلوى بذات اليدين، ولكنه يسير بطريق مُعبّد بالسكاكين الحادة تغرس في قدميه، كلما فتح فمه متألماً، ظنه المُشاهد أنه متأهب لأكل الحلوى. إذ صنعت الحرب ما لم يسبق له أن يجربه خاصة في إطالة أمدها التي عمّقت من صناعة الشعور ونقيضه في لحظة واحدة. حزناً وفرحاً، كمداً وصبراً، ليس تنازلاً أو إن جاز تسميتها فهي حالة من فقدان الأولويات ومساحة ترتيبها، لقد سلب منّا الشعور، والدخول إليه منفجراً فخرج ليلة الإعلان عن قرب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار أي نهاية الحرب في ذهن الغزي حالة متشابكة من التقاط الشعور وتسميته.
ليلة اجتماعنا بساحة بيت النزوح وجارتي التي فقدت كل عائلتها وهي الناجية الوحيدة من عائلتها بعد أن فقدت آثارهم، بعد فرح ظهر على وجهها دخلت في حالة صمت رهيبة بعد أن قالت:
"ما نفع نهاية الحرب وهم ليسوا معي" لم يعرف مدى صمتها في رأسها. تلك صورة لا يمكن إنكارها في بال كل غزي "ناج يحمل مقبرة بين يديه" حزن ثقيل جداً، وفرح خفيف يسحبه نحو الشعور _شعور النجاة_ لقد خرجت حياً من كل هذا تشده خيوطه الخفيفة نحو الحياة والأمل، لكن يده مثقلة بالمقبرة التي يحملها.
فما الذي دفع بنا نحو الفرح المبالغ هذا، في ظل وجود موت مبالغ أكثر وأكثر؟!
ربما انتظرت وقف الحرب أو هذه اللحظة تحديداً، كتفسير للحظة التي اختبرت فيها شعور اللقاء، بيني وبين ما تبقى من عائلتي في مدينة غزة وشمالها حيث بترت الحرب الطريق بين شمال وجنوب منذ بدء العملية البرية على القطاع، استطاع اثنان من إخوتي الحصول على تصريح من الاحتلال للدخول إلى جنوب القطاع _منطقة نزوحي_ حدث اللقاء إذاً، لكنه كان ثقيلاً بالفقد المنقوص، إذ ليس هذا مكان اللقاء المنشود الذي انتظرناه تسعة شهور، كنا نريد أن يحدث هناك داخل الشمال _ شمال القطاع_ هناك فوق عتبة البيت المكوم رماده بكل ذكرياته في السودانية شمال غرب القطاع. لكنّه حدث على أية حال فرحاً خفيفاً يزورنا في نهاية أيام الحرب المرتقبة مشوب بحزن السؤال:
هل انتظرنا نهاية الحرب من أجل اللقاء فقط؟!
لقد حدث لكنه لم يكن بحجم الأمل الذي حملناه طوال فترة الانتظار، لقد فقدنا المكان الذي هو حاضنة اللقاء الذي انتظرناه وأردناه.
ولم انتظرنا وقف الحرب؟!
انتظرنا نهاية التهديد بالخوف، انتظرنا نهاية الملاحقة، انتظرنا نهاية رحلة الشقاء والنزوح، انتظرنا نهاية شقاء الانتظار نفسه.
وهذا كله حدث بأن زمناً طويلاً عاشت الحرب فيه في ثنايا اليوم الغزي ليظل عالقاً الغزي بين فرحة النجاة وثقل الحزن الذي بدا يظهر أمام تساؤلات الحرب الأخرى لتقف أمام حالة من الإحصاءات والتي صدرت عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة،
"61.182 شهيداً ومفقوداً، 14.222 مفقوداً، لم يصلوا المستشفيات منذ يناير 2025، 2.092 عائلة فلسطينية أبادها الاحتلال ومسحها من السجل المدني بقتل الأب والأم وجميع أفراد الأسرة، وعدد أفراد هذه العائلات 5.967 شهيداً، (وفق وزارة الصحة)، و4.889 عائلة فلسطينية أبادها الاحتلال ولم يتبق منها سوى فرد واحد فقط، وعدد العائلات فاق 8.980 شهيداً. 7 مقابر جماعية أقامها الاحتلال داخل المستشفيات، و2 مليون نازح في القطاع، 161.600 وحدة سكنية دمرها الاحتلال بشكل كلي."
الآن صار واضحاً نوعية السكاكين الحادة التي انتظرت طريق نهاية الحرب للغزي وفق الأرقام والبيانات الصادرة على المصادر الفلسطينية الرسمية. حتى حين حاولنا ابتداع فكرة نهاية الحرب، هي نهاية رحلة النزوح والعودة إلى البيت.
فأين البيت الآن؟
البيت الذي صار ركاماً منذ أكتوبر 2023، البيت الذي انتظرته السيدة التي رافقتني اليوم على العربة في دير البلح "فقدته ليلة الهدنة" هي نهاية حديثها عن سبب نزوحها إلى الجنوب إذ فقدت ابنها الوحيد والذي جاء بعد انتظار عشرين عاماً، ثالث يوم في الحرب، واضطرت للنزوح جنوباً لتسهيل مهمة الانتقال من زوجها الذي تأكدت إصابته بمرض السرطان خلال الحرب محاولين الخروج لتلقي العلاج بالخارج الأمر الذي يعد أكثر سهولة في جنوب القطاع عن شماله، لكنه مع ذلك لم يحدث فهي ستعود إلى البيت، البيت الذي صار حطاماً ليلة الأحد ليلة دخول الهدنة حيز التنفيذ ستعود إلى ركامه برجل مريض وولد شهيد.
نهاية الحرب يعني العودة إلى البيت أو المتبقي من البيت، صمدت عائلة صديقتي آمنة في جباليا حتى أكتوبر 2024 البيت الذي آوى خوفهم وقهرهم على شقيقاتها وعوائلهم الذين قضوا في القصف والحرب، البيت الذي شهد على ليال الجوع والانتظار، انتظار اللقاء بابن شقيقتهم الناجي الوحيد من عائلته وأن يعود لبيت العائلة بعد نزوح نحو الجنوب، انتظرت فيه العائلة أياماً طويلة، بل كانت محفزة ودافعاً لصمودهم هذا حتى قرر الاحتلال بدء العملية العسكرية تجاه جباليا في أكتوبر 2024 وحاصرهم مدة لا تقل عن عشرة أيام بلا أدنى مقومات حياة هناك إلى أن أجبرهم على الخروج من البيت ونزحوا نحو وسط مدينة غزة، وانتظروا أن تنتهي الحرب كي يعودوا إلى البيت؛ لتبدأ الهدنة يوم الأحد وتنطلق العائلة إلى البيت بأمل كبير بأن البيت مازال ينتظر وينتظر لكنهم تفاجأوا بحجم دمارٍ لم يُبقِ من البيت شي.
فتعود العائلة نحو اللاشيء، انتظار طويل جداً للعودة لكنها كانت لبيت محطم وذكريات تحت ركامه.
أما بعد، فقد حدثت النهاية، ووضعت الحرب أوزارها ويطلب من الغزي الآن أن يعبر عن نجاته وفق تصنيفات المصفقين من يرون في ذلك هزيمة ومحو لملامح غزة، وآخرون يرون في ذلك انتصارًا على اعتبار النجاة انتصارًا على البقاء في ظل انعدام الخيارات والفرص للنجاة وهشاشة حدوثها أصلاً.
دون أن ينتبه أحداً من هذه الفرق المتناحرة على واقع الغزي الآن بعد هذا الحرب في ظل واقع مبهم وغير مفهوم سيعود فيها الناجي إلى ما قبل الحرب وفق (النجاة) نقيض الموت أنه سيعود إلى اللاشيء.
فمن ذا الذي يمتلك الآن رفاهية الانهيار في غرفة في بيت، بعد رحلة الهرب وملاحقة النجاة على هشاشتها؟!
إلى أين تأخذني يا أبي؟! وفق سياق نص (لماذا تركت الحصان وحيداً) كإسقاط على الحالة الآن
لتكن الإجابة: "إلى واقع اللاشيء".
يد تحمل النجاة في يمينها، وجسد مليء بأشواك علقم.