بينما ينهمك الستيني سليمان أبو راشد أحد نازحي شمال قطاع غزة، في إزالة الركام المُتناثر من غرفته التي انهار جزء من سقفها بفعل القصف الإسرائيلي جرّاء الحرب، وإذ ببقايا السقف تهتز وتتناثر عليه، فخرج مسرعًا ناجيًا بنفسه من موتٍ محتم.
جاهد الرجل وأبناؤه لإخراج بعض المستلزمات الضرورية والمفقودة من الأسواق، كأنابيب الغاز والبطاريات من تحت الأنقاض، لكنّها على الرغم من أهميتها وحاجتهم إليها لن تُعيد لهم استقرار البيت، فكل ما تمنونه أن لو كان السقف كاملًا، أما الآن فلا خيار أمامهم سوى نصب خيمة تؤويهم بجانب ركام المنزل المدمر.
وكان أبو راشد يضرب كفيه من هول ما ألمّ بعائلته والمنطقة بأكملها، فهو من سكان معسكر جباليا الذي دمرته الآليات العسكرية الإسرائيلية بشكلٍ كامل، ولم يتبقَ من منازل سكانه إلا بقايا ركام و أخرى آيلة للسقوط ومتضررة بشكلٍ بليغ.
خلّفت الحرب الإسرائيلية دمارًا هائلاً في قطاع غزة قُدِّر بأنّه طال 88% من عمرانه، وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة، الذي أشار في التفاصيل إلى أنّ الاحتلال دمّر (161,600) وحدة سكنية كليًّا، وخلّف (82,000) وحدة سكنية غير صالحة للسكن كما دمر (194,000) وحدة سكنية تدميرًا جزئياً.
وخلفت العمليات العسكرية البرية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا، مناطق سكنية كاملة، فيما يؤكد محامي القانون الدولي يحيى محارب، أنّ ما قامت به "إسرائيل" من تدميرٍ متعمد لمربعات سكنية كاملة، هو جزء من عمليات ممنهجة لتدمير حياة المدنيين، وهو أحد أشدّ الاختراقات للقانون الدولي الإنساني الذي يكفل حقوق المدنيين وممتلكاتهم.
وأشار محارب في حديثٍ لمراسة "آخر قصة"، إلى أنّ ما قام به الاحتلال من تدمير متعمد للمباني السكنية والبنى التحتية في غزة بالكامل لإنهاء سبل الحياة بها، هو مخالفة واضحة وصريحة للقانون الدولي، وذلك بحسب المادة 25 من لائحة لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية، وكذلك المادة 147 والمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة.
كما يتنافى نسف الاحتلال للمباني السكنية في قطاع غزة مع ما نصّت عليه المادة 51 من البروتوكول الأول الملحق من اتفاقات جنيف، وكذلك نصّ المادة الثامنة وتحديدًا الفقرة 13 من ميثاق روما التي تمنع المساس بالممتلكات المدنية، وتعتبر تدمير المباني شكلًا من أشكال جرائم الحرب.
في ظلّ هذه الظروف، يرى الغزيون الذين لم يفقدوا بيوتهم بشكلٍ كليّ وبقيت لهم غرفة على الأقل مكتملة السقف والجدران أنّهم أكثر حظًا من غيرهم، رغم أن استئناف الحياة في غرفةٍ معرضة للانهيار في أي لحظة تحت أيّ ظرف، مما يعرض حياة الكثير منهم للخطر.
ويفضل الكثير من النازحين الاستظلال بسقوف الخرسان المحطم والمعلق على أعمدة متهالكة، على الإقامة داخل خيمة، رغم أن ذلك يعد مخاطرة كبيرة، في ظل غياب التوجيهات الفنية لتجنب حصول كوارث.
وانهار مسكن في حي النفق شمال مدينة غزة يعود لعائلة "أبو العمرين" فوق رؤوس ساكنيه، مما خلف نحو 11 ضحيةً.
فيما الشاب نجى فاخر أبو ريالة في العقد الثالث من العمر من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، بأعجوبة إثر انهيار المبنى الذي كان يعمل على تنظيف توطئة لقدوم أهله عائدين من جنوب القطاع، في اليوم الثاني لإعلان وقف إطلاق النار.
وقال أبو ريالة الذي شج رأسه واصيبت ذراعه برضوض بعد قفزه من النافذة، "في لحظة ما شعرت بأن المبنى وهو مكون من دورين بدأ يهتز وتتناثر أجزاء من الخرسان، تنبهت إلى الأمر وقفزت من النافذة، وسقط بعدها بلحظات السقف العلوي، لكني أصبت ببعض الأذى".
بدوّره أشار المحاضر في كلية الهندسة- المعماري نهاد المغني إلى ضرورة تقييم الوضع الإنشائي للمنازل من أجل تحديد صلاحيتها للسكن المؤقت، موضحًا أن الكثير من المباني التي تعرضت للحريق لا تزال قائمة، ولكن خطر انهيارها قد يكون وشيكًا.
ويُمكن تقييم المبنى المحترق بناءً على مدة استمرارية الحريق فيه، وفقًا للمغني الذي أكد أنّ المنزل الذي تعرَّض لحريق واستمر فيه لفترةٍ طويلة فمن الممكن أن تنهار العناصر الإنشائية فيه، وتتفتت الخرسانة، وبذلك فإنّه مع أي هزة أخرى ستنهار حجارة المبنى.
كيف تتم عملية تقييم المنازل الصالحة للسكن من غيرها؟ أجاب المغنى لـ "آخر قصة": "يُقيَّم المنزل إن كان صالحًا للسكن أم لا من خلال فحص المبنى إما بالشكل النظري بتقييم عناصره الإنشائية بالعين، أو بإجراء بعض الاختبارات التي نسميها بالوظيفية، فإن كان جزءًا من المبنى سليم إنشائيًا أيّ أنّ سقفه وأعمدته سليمة تمامًا، ففي هذه الحالة يمكن تكيفيه للعيش فيه بشكلٍ مؤقت، على أن يُرَمَّم لاحقًا".
وشدد المهندس المغني على أنَّ المبنى الذي لا تتوفر فيه العناصر الإنشائية الأساسية، وقد يكون معرضًا للانهيار، يجب منع الناس من الاقتراب منه حتى يتم تدعميه وفقًا للأصول، داعيًا الجهات المختصة إلى الضغط للإسراع في عملية توثيق وتقييم المباني ثم إزالة الأخطار بشكل سريع والبدء بعملية الترميم وفق ضوابط هندسية ملائمة.
ولاء أبو جامع نزحت رفقة عائلتها من بيتها الواقع في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، عدّة مرات، إلى أن انتهى بهم المطاف بعد انسحاب قوات الاحتلال من منطقتهم، إلى بقايا بيتهم.
وفي لحظة عودتهم الأولى، لم يجدوا سوى الركام، تقول ولاء، التي تحاول تذكر تلك اللحظات: "كان المنزل قد أصبح مجرد ذكرى في شكل حطام، عدنا إلى خيمة صغيرة في مواصي خانيونس، لكننا لم نحتمل العيش في الخيام، فقررنا إصلاح الغرفة الوحيدة التي بقي سقفها، على الرغم من انهيار عمودها الجانبي".
حاولت العائلة إجراء بعض محاولات الترميم، وإزالة الركام الذي يعيق حركة إقامتهم في البيت؛ لكنَّ المخاطر ظلّت تُحيط بهم، تردف: "كانت الحرب مستمرة ونحن نقيم في الغرفة والعمود يهتز مع كل قصف، وتسقط الحجارة والرمال على رؤوسنا بالإضافة إلى وجود القوارض والحشرات بشكلٍ لم نعهده من قبل، واليوم على الرغم من توقف الحرب فإنّ المنزل ليس إلا مجرد خراب يهدد حياتنا كل يوم."
تستقبل البلديات في عموم قطاع غزة شكاوى من السكان الذين اضطروا للعيش في بيوتهم الآيلة للسقوط. يقول المتحدث باسم بلدية غزة حسني مهنا: "على الرغم من المحاولات المبذولة لتوفير مساعدات عاجلة كالكرفانات والخيام للأسر التي بقيت في بيوتها رغم عدم صلاحيتها للسكن وما يرافقها من مخاطر عالية، إلا أنّ الحلول تبقى قيد الانتظار حتى اللحظة".
ويشير مهنا إلى أنّ بلدية غزة تستقبل العديد من الشكاوى من المواطنين الذين تنهار عليهم أجزاء من الأعمدة والأسقف بعد سكنهم في بيوتهم التي لا تصلح للسكن.
وعن الإجراء المُتبع من قبلهم إزاء هذه الشكاوى، قال مهنا إنهم يتعاملون معهم وفق الإمكانات والموارد المتاحة إذ لا توجد آليات ومعدات كافية لإزالة بعض الركام من البيوت ليتمكن الناس من التحرك بحرية بين أنقاض منازلهم، مؤكدًا عدم توفر إحصائية بعد لدى البلدية توضح عدد الأسر التي تُقيم في بيوت آيلة للسقوط.
فيما تقوم البلدية بدورها التوعوي تجاه السكان حول مخاطر الإقامة في البيوت غير الصالحة للسكن، عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفقًا لمهنا، الذي دعا كل المواطنين الذين يتعرضون لمشكلة من هذا القبيل التواصل مع بلدية غزة عبر أرقامها الرسمية، للتعاون على حلّ الإشكالية الموجودة.
وبحسب تقديرات منظمات دولية، يصلّ حجم الركام إلى حوالي 51 مليون طن، ومن المتوقع أن تستمر عملية إزالته لعقود. في حين أن الأمم المتحدة تشير إلى أنَّ ما يقرب من ثلثي المباني في غزة دُمِّرَت بالكامل جرّاء العدوان الإسرائيلي.
وبما أنّ دور البلديات اقتصر على التوعوي منه مع بعض التدخلات على أرض الواقع المقيدة بالإمكانات المحدودة، حاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع وزارة الإسكان والأشغال العامة بغزة، للاطلاع على جهودها في حماية السكان الذين يبقون في بيوت آيلة للسقوط، لكنّ الوزارة اعتذرت عن الإدلاء بأي تصريحات إلى حين تنسيق الجهود ميدانيًا مع الوزارة في رام الله في قادم الأيام.