يحار الضمير الإنساني فيما يحدث أمام أعين العالم لأطفال غزة من قتل وتشريد يهزّ كرامتنا الانسانية من صميمها ويجعلنا نُعيد النظر بمفاهيمنا الأخلاقية والدينية، ويضعف الثقة بمؤسسات المجتمع الدولي. فما نراه من استعلاء على القانون الدولي وفرض لمنطق القوة والتغول على المنظمات الدولية الإغاثية، التي تقف شبه عاجزة عن مواجهة أكبر مأساة للطفولة في تاريخنا المعاصر، وفق ما وصفها المفوض العام لـ«أونروا» فيليب لازاريني بقوله: «عدد الأطفال الذين قُتلوا في غزة خلال 4 أشهر فقط أعلى من عدد الأطفال الذين قتلوا في 4 سنوات من الحروب في جميع أنحاء العالم».
في الوقت الذي تتداعي فيه المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان لتفعيل الاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بالطفل وحقوقه، والتشجيع على تشريع القوانين التي تكفل له الحياة الكريمة والعيش الآمن، نجد السلبية والقصور إزاء ما يواجهه الطفل الغزي كل يوم من قتل وظلم، ووجع وقهر، وجوع وحرمان. كما نعجب من هذا التغافل والعجز عن صرخات أطفال غزة وعذاباتهم، الذين اجتمعت عليهم ويلات الحرب، وأحزان الفقد واليتم، وآلام المرض والجوع والخوف.
وإذا كانت القيم الدينية والإنسانية توجب علينا الدفاع عن الأطفال حيثما كانوا، وحمايتهم من القتل والإبادة والتشريد، فإنها توجب علينا أيضاً الرحمة بهم ورعايتهم، لا سيما إذا تعرضوا لفقد سندهم الأسري من آبائهم وأمهاتهم ومن يعيلهم، وذلك من خلال كفالتهم بالعيش الكريم والرعاية الصحية والعلمية والاجتماعية اللازمة لهم، بما يصون كرامتهم ويحفظ إنسانيتهم ويعمل على تمكينهم في المجتمع. وقد خاطب الله تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: «فأما اليتيم فلا تقهر»، وإن من القهر لأيتام غزة أن يتخلى عالم المؤمنين عن مسؤوليته تجاههم فيتركوا وحدهم لمواجهة مصيرهم.
إن مجرد التعاطف وحده لا يكفي للتخفيف من مصاب الأيتام والقيام بالواجب الديني والإنساني تجاههم، كما أن رعايتهم وكفالتهم لا تقتصر على تقديم المأكل والمشرب فقط، ذلك أن قيمة «الإحسان إلى اليتيم» تشمل دلالات واسعة على مستوى الفعل والقول معاً، وعلى مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى الدولة والأمة، وعلى مستوى العالم الإسلامي والإنساني. فالإحسان إلى اليتيم يوجب تمكينه اجتماعياً وعلمياً وصحياً ونفسياً وإقامة المؤسسات الفاعلة، التي تنهض بهذا الدور الكبير، وتحقيق التكافل والتعاون الإسلامي والإنساني للاضطلاع بهذه المهمة العظيمة.
في شهر يونيو الماضي أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة، أنه قرر إدراج إسرائيل في «القائمة السوداء»، أو ما يسمى بـ«قائمة العار» للدول والمنظمات، التي تلحق الأذى بالأطفال في مناطق النزاع، لكن ذلك «العار» لم يوقف استمرار قتل الأطفال في غزة، أو يمنع الدول الكبرى عن مواصلة دعمها اللامحدود لقوات الاحتلال بأحدث أنواع أدوات الدمار والأسلحة العسكرية المحرمة دولياً.
وفي تقرير أصدرته لجنة حقوق الطفل التابعة إلى الأمم المتحدة، بشأن أوضاع الأطفال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بتاريخ 16 سبتمبر 2024، جاء فيه «إن العدد الهائل من الأطفال في غزة الذين ما زالوا يُقتلون، المشوهين والجرحى والمفقودين والنازحين والأيتام والمعرضين للمجاعة وسوء التغذية والمرض، فضلاً عن النزوح المتعدد لسكان غزة نتيجة الهجمات العشوائية وغير المتناسبة، التي تشنها اسرائيل على غزة باستخدام الأسلحة المتفجرة ذات التأثير الواسع النطاق في المناطق المكتظة بالسكان وحرمانها من وصول المساعدات الإنسانية، أدت إلى نزوح ما لا يقل عن مليون طفل، واختفاء 21 ألفاً آخرين، بينما فقد 20 ألف طفل أحد الوالدين أو كليهما، يضاف إليهم 17 ألفاً غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عنهم».
إن العمل من أجل حماية الأيتام هو ضرورة إنسانية وأخلاقية تفرضها علينا تعاليم الأديان، وليس مصادفة ولا عبثاً أن يكون خاتم الأنبياء، محمد عليه الصلاة والسلام، قد عانى آلام اليتم قبل أن يصطفيه الله تعالى خاتماً للمرسلين ويجعله رحمة للعالمين. فلن يدرك قيمة الرحمة والحاجة إليها كمن فقد والده وهو في بطن أمه، ثم فقد أمه وهو في السادسة من عمره. ولذلك، قال له الله تعالى مذكراً له بما أفاض عليه من نعمه: «أَلَم يَجِدكَ يَتيمًا فَآوى. وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغنى. فَأَمَّا اليَتيمَ فَلا تَقهَر. وَأَمَّا السّائِلَ فَلا تَنهَر. وَأَمّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث».
ودعت التوراة لحماية اليتيم وعدم الإساءة إليه تجنباً لغضب الخالق، وهو ما تجلى في سفر الخروج: 22 - 23: «لاَ تُسِئْ إِلَى أَرْمَلَةٍ مَا وَلاَ يَتِيمٍ. إِنْ أَسَأْتَ إِلَيْهِ فَإِنِّي إِنْ صَرَخَ إِلَيَّ أَسْمَعُ صُرَاخَهُ»، وجاء في مزامير داود (3:82)، عن إنصاف اليتيم: «اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ». فأين هي الممارسات الصهيونية العدوانية من تعاليم الكتب السماوية؟
إن تخلي العالم عن مسؤوليته تجاه أطفال غزة، وعجزه عن الاستجابة لصرخاتهم واستغاثاتهم ودموعهم، والقصور عن مد يد العون لنجدتهم، يعني موت قيم الرحمة والإحسان في الضمير الإنساني، وتحول أرض غزة إلى مقبرة للقيم والمعاني الإنسانية، لتدفن إلى جوار شهدائها وأطفالها، الذين يشكون إلى الله قسوة الوجدان الإسلامي المعاصر وضعف الضمير الإنساني. لذا، فإن كفالة أيتام فلسطين هي مسألة يجب أن تكون في صدارة أولويات خطة الاستجابة لدى مؤسسات الإغاثة العربية والإسلامية والعالمية. والاستجابة الناجحة لهذه القضية تشمل المعالجة الشاملة لمشكلات الحصار وانعدم الأمن الحياتي والنفسي والغذائي، بالإضافة للفقر والحرمان والبطالة.
وإذ نقدِّر الجهود، التي تقوم بها الهيئة الخيرية الهاشمية وهيئات الإغاثة العربية والعالمية في قطاع غزة، فإننا ما نزال بحاجة إلى الكثير من العمل للوصول إلى تلبية الاحتياجات على الأرض. كذلك، فإن إيصال المساعدات يتطلب توفر إرادة سياسية دولية تضمن وصول المساعدات ومنع الجماعات الصهيونية المتطرفة من التحكم في دخول المساعدات الإنسانية إلى العائلات المحاصرة.
إن حماية اللاجئين وضمان سلامتهم لا تقتصر على توفير فرصة للنجاة من القتل داخل وطنهم وإنما تشمل حمايتهم من الأوبئة والأمراض والاستغلال ومتابعة صحتهم العقلية والنفسية. وهنا أقول إننا أمام فهارس متعددة من الحرمان والتعسف تجتمع اليوم في مكان واحد اسمه قطاع غزة. ولذلك، فإن أيتام غزة ليسوا كسائر الأطفال الأيتام في العالم، فقد رأت أعينهم الصغيرة من الأهوال ما لا يحتمله أكثر الرجال شدة وبأساً من قتل لآبائهم وتدمير لبيوتهم، وهم أطفال ناجون من جرائم الإبادة والتطهير العرقي، التي يمارسها الاحتلال.
يعلمنا التاريخ أن غرور الغزاة يدفعهم دوماً إلى المزيد من القتل والإبادة، التي لا ترحم طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً. ويعلمنا كذلك أن بحث الطغاة والغلاة عن أوهام «النصر الكامل» يجعلهم غير مدركين أن الظلم والإرهاب، الذي تقترفه أيديهم، سيزيد الشعوب المتطلعة للحرية صموداً وإصراراً على تحقيق حياة أفضل للأجيال القادمة.