صبري الرابحي - تونس
قد يبدو لك هذا التساؤل تقليلاً من قدر الرجل أو حتى أمراً موحشاً تجاهه بمقاييس حكامنا العرب، إلا أنه في صميم تفكيك ما يطرحه الرئيس الأميركي تباعاً خلال أقل من شهر عن توليه رسمياً مقاليد الحكم وجلوسه مجدداً في مكتب البيت الأبيض، هناك حيث تتحدّد المصائر وترسم السياسات ويتداخل فيها التفكير مع التنفيذ في جمهورية ترامب اللاقطرية.
الاستيلاء على غزة وتهجير سكانها:
يبدو أن الحرب الأخيرة على غزة والتي تابعها دونالد ترامب في مراحلها الأولى كمواطن أميركي شغل منصب رئيس سابق، ثم مرشحاً جدياً للحزب الجمهوري المعروف بتحيّزه التاريخي للحرب أمام السلام المزيّف للديمقراطيين، وسرعان ما وجد نفسه أمام وقف تاريخي لإطلاق النار ساعات قليلة قبل توليه رسمياً للحكم، يبدو أنه لم يستسغ خروج الفلسطينيين بمظهر المنتصر على آلة الحرب الصهيونية وحلفائها.
فحديثه عن استيلاء الولايات المتحدة الأميركية على قطاع غزة وتهجير سكانها لا يخرج عن سياق ردود الأفعال المناوئة للنصر الفلسطيني التاريخي والذي غيّر موازين القوى.
ترامب بالرغم من أن تصريحه هذا يعدّ تصريحاً عاطفياً خلال مؤتمره الصحفي رفقة بنيامين نتانياهو وتراجعاً عن نقده اللاذع لضيفه خلال فصول طويلة من الحرب، إلا أنه لا يحجب سعيه لاستكمال مشروعه للشرق الأوسط.
ترامب وصفقة القرن:
لا يريد دونالد ترامب أن يمر بين منزلتي الرئيس الـ45 والـ47 للولايات المتحدة الأميركية دون أن يترك بصمته في أهم نزاع إقليمي متواصل منذ أكثر من سبعين سنة، فإذا كانت المرحلة الأولى من صفقة القرن التي رسم ملامحها بعناية خلال فترة ولايته الأولى تقوم على تقسيم جديد للأراضي التاريخية للفلسطينيين وإحكام الحزام الإقليمي بواسطة التطبيع، فإن المرحلة الثانية من هذه الصفقة تبدو أكثر تطرفاً بل ترتقي إلى حجم العربدة الاستراتيجية فوق صفائح متحركة أذكت تحركاتها المقاومات المتعددة التي برزت في أتون طوفان الأقصى.
اليوم محاولات ترامب تمرير مشروعه لم يعد فقط استفزازاً للفلسطينيين وللشعوب العربية المنفصلة عن حكامها في الموقف من الصراع العربي الصهيوني، بل تجاوزتها إلى اللاعبين الجدد الذين صعدوا إلى المشهد ونقصد بهم حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن، إيران، وبقية الجماعات المسلحة في العراق وحتى سوريا فهل يقصد ترامب ذلك؟
الرفض الدولي يصحّح التاريخ والجغرافيا:
تسارعت خلال الساعات القليلة الماضية ردود الأفعال الدولية الرافضة لتصريحات ترامب، بل فلنقل لم يسبق أن عبرت عديد الدول بصيغة الإجماع عن رفضها للمقترحات الأميركية بعد أن أذعنت لكامب دايفيد وأوسلو والاتفاقات الإبراهيمية، وهي مواقف تستحق الإشادة على الأقل.
ففي حين عبرت الدول العربية عن رفضها للالتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها استحقاقه لأراضيه التاريخية، فإن الدول الغربية وروسيا تناولت المسألة من زاوية الحرص على استدامة التهدئة وتجنب المزيد من التوتر.
كل هذه الدول مجتمعة قررت أخيراً أن لا تنخرط في مغامرة ترامب أو حتى تهديده الأرعن للسلام في المنطقة واجتمعت على مواجهته بسوء تقديره للعواقب ولتبعات مشروعه الذي قد يجرّ المجموعة الدولية إلى حرب أخرى قد تتوسع اقليمياً أكثر حتى من مرحلة طوفان الأقصى وتهدد مصالحها في المنطقة أمام فانتزمات ترامب التي وجدت إدارته نفسها تحت هذا الضغط مجبرة على التدارك.
تصريحات مسؤولي الادارة الأميركية تعقيباً على الرئيس ترامب:
ساعات قليلة بعد مجابهة تصريحات ترامب بخصوص مستقبل قطاع غزة برفض دولي واسع، تواترت تصريحات كبار مسؤولي إدارة الرئيس ترامب لمحاولة التدارك، حيث وصف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو تصريحات ترامب بأنها ليست خطوة عدائية بل مجرد رؤية أميركية لإعمار غزة.
بدورها قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت إن الرئيس ترامب لم يتعهد بوضع قوات أميركية على الأرض في غزة وإنما طرح مساهمة الولايات المتحدة الأميركية مع شركائها في مساعي إعمار القطاع.
وبالتالي فإن جملة هذه التصريحات التي أعقبت حديث ترامب تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إداة الرئيس ترامب مقتنعة بأن موقفه يستحق التقويم ديبلوماسياً وسياسيا وهو ما جعلها تسارع إلى ذلك.
يبدو أن الرئيس الأميركي لم يتوقف لقراءة المشهد وتفكيك رموزه بعد طوفان الأقصى ومازال يحافظ على ذهنية الرئيس الـ45 بل وأطلق العنان لتصريحاته غير المسؤولة ليصطدم بحقيقة أن المشهد قد تغير وأنّ السياسي الذي يتجرّد من الواقعية يحقّ لنا أن نتساءل ما إذا كان حقاً يعي ما يقول.