يبدو أن إحدى قذائف الحرب على قطاع غزة، قد أصابت قانوني حماية المستهلك والصحة العامة الفلسطينيين في مقتل، إذ لم يعد لإجراءاتهما الرادعة أي تأثير على حالة السوق المحلي.
تعطل هذان القانونان بوجه خاص على مدار خمسة أشهر، فتح شهية تجار الحرب لاستغلال حاجة السكان بشكل غير قانوني. كما ساعد في تنامى الفساد التجاري بصور متعددة في القطاع، بدء بالغش، والغبن وإلحاق الخسائر المادية بالمواطنين، وتعريض حياتهم للمخاطر الصحية.
وتجاوزت الحالة القائمة التي يمكن أن يصطلح عليها "فوضى السوق"، كافة القوانين والتشريعات الفلسطينية التي كفلت حقوق المستهلكين وأرست دعائمها من خلال قانون حماية المستهلك رقم 21 لسنة 2005م، والذي يقوم على حماية وضمان حقوق المستهلك من الغش أو الاستغلال، وكذلك توفير السلع والخدمات التي تتوافق مع التعليمات الفنية والإلزامية، مع منع التلاعب في الأسعار.
سقوط في الفخ
مذ أعلنت إسرائيل حربها على غزة في السابع من أكتوبر الماضي منعت إدخال الاحتياجات الأساسية للقطاع، وعلى ضوء ذلك اعتمد السكان على المخزون الغذائي المتوفر، إلى أن بدأ ينفذ بشكل تام بعدما تجاوزت الحرب شهرها الرابع.
وعلى أثر نفاذ مخزون السكان لاسيما القاطنون في محافظتي غزة وشمال القطاع بشكل خاص، من الدقيق والبقوليات وغاز الطهي والمياه الصحية، ومع غياب الرقابة الفعالة على اجراءات حماية المستهلك، شاعت فوضى السوق.
المواطنة نائلة عبد الرحمن (52 عاماً) من سكان حي الصبرة جنوب مدينة غزة، قالت إنها واحدة من ضحايا الغش الذي عرض حياتها وأبناءها لمخاطر صحية، حيث اضطرت وتحت وطأة سد جوع أسرتها لشراء دقيق تبين أنه مخلوط برواسب أعلاف الحيوانات ومخلفاتها.
تحدثت عبد الرحمن بوجه عابس عن حالة الاستغلال التي سادت منذ بدء الحرب، قائلة:"ما فتئ الناس يتساءلون عن الدور الحكومي تجاه محاسبة المخالفين من التجار والذين يقومون باستغلال حاجة السكان ويبيعونهم دقيقاً فاسداً وبأسعار جنونية لكن لا حياة لمن تنادي".
وعن تجربتها الشخصية، اوضحت أنها كانت تعتمد في وقت سابق على شراء الخبز الجاهز، غير أنه ومع تعطل المخابز التجارية عن العمل بفعل الحرب، أصبحت تشتري الدقيق وتقوم بخبزه في مسكنها الذي لم ينجو من قذائف الحرب.
ومع الارتفاع الجنوني لأسعار أكياس الدقيق سعة 25 كيلو جرام، من عشرة دولارات إلى ألف دولار، أصبحت السيدة عبد الرحمن تعتمد على شرائه بكميات محدودة جداً. وقالت في إحدى المرات قمت بشراء ثلاثة كيلو جرام من مخلوط حبوب الذرة والشعير، وبعد معاناة طويل مع العجن والخبز، اجتمعنا على سفرة قوامها طبق الزعتر والشاي، وبعدما تناولنا أنا وأبنائي الخبز أصبحنا نعاني من آلام شديدة في المعدة وحالات غثيان، وتبين أننا تعرضنا لحالة تسمم شديدة، طبقاً لتشخيص طبيب باطنة يقطن على مقربة من مسكنها.
وعلى ضوء خروج نحو 31 مشفي ومركز صحي بما فيها مشافي محافظتي غزة وشمال القطاع، عن الخدمة بفعل الحرب، لا يتوفر احصاءات دقيقة حول حالات التسمم التي تعرض لها السكان، الذين يعانون من الأصل من سوء التغذية، نتيجة منع الاحتلال الاسرائيلي إدخال المساعدات الغذائية إلى سكان شمال القطاع.
غش
المواطنة عبد الرحمن لم تكن الوحيدة التي تعرضت لوعكة صحية على ضوء تناول أغذية فاسدة ومنتهية الصلاحية، وفوق كل ذلك بيعت بأسعار مضاعفة. إذ اشتكى المواطن رزق ماضي من سكان حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة، من تعرضه وأفراد أسرته الأربعة من آلام معوية حادة، على أثر تناول لحوم مجمدة منتهية الصلاحية.
وقال ماضي، في العقد الثالث من العمر، إنه تعرض لحالة غش، إذ قام بعد إلحاح أطفاله بشراء لحوم مصنعة تستخدم في الوجبات السريعة (برجر)، ادعى بائعها الذي كان يجوب الحارات عبر عربة كارو، أنها مجمدة ولم تتأثر بانقطاع التيار الكهربائي بعد أن نزع عنها ملصق مدة الصلاحية. وبعد تناولها أصبحت الأسرة تعاني من مشاكل صحية تفاقمت مع انعدام الخدمات الصحية واعتماد السكان على شراء المسكنات إن توفرت، من الصيدليات دون الحصول على روشتة طبيب.
يتعارض هذا الفعل، مع ما نصت عليه المادة (27) من قانون حماية المستهلك الفلسطيني، "يعاقب بالسجن من عرض أو باع سلع تموينية فاسدة أو تالفة، أو تلاعب بتاريخ صلاحيتها، وكل من عرض أو باع منتج مخالف للتعليمات الفنية الإلزامية، يعاقب بالسجن لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونياً، أو بكلتا العقوبتين".
وفي موضع آخر من المادة ذاتها، فقد ورد نص صريح بمعاقبة كل من امتنع عن عرض أو بيع السلع التموينية أو أرغم المشتري على شراء كمية معينة منها أو سلعة أخرى معها، أو اشترط شراء خدمة بإسداء خدمة أخرى أو بشراء سلعة، يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تتجاوز ألف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونياً أو بكلتا العقوبتين.
كما نص القانون على معاقبة كل من امتنع عن وضع قوائم أسعار السلع أو الخدمات في أماكن ظاهرة أو خالف التسعيرة المعلنة يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونياً أو بكلتا العقوبتين.
ولا يتناقض فعل بائع اللحوم المجمدة أو الأغذية منتهية الصلاحية، مع قانون حماية المستهلك فحسب، وإنما مع قانون الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لسنة 2004. والذي نص في مادتيه (18-19) يحظر تداول الأغذية إذا كانت مخالفة للمواصفات والشروط المحددة من قبل الوزارة. 2. وقع بها غش على نحو يغير من طبيعتها. 3. كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي، أو ضارة بصحة الإنسان.
كما اعتبر أن المنتج الغذائي يصبح غير صالح للاستهلاك الآدمي إذا: 1. حدث تغير في خواصه الطبيعية من حيث الطعم أو المظهر أو الرائحة. 2. ثبت بالتحليل حدوث تغير في تركيبته الكيماوية أو إضافة مواد كيماوية غير مسموح بها أو تلوثه بأحد الملوثات الكيماوية أو البيولوجية أو الإشعاعية. 3. كانت مدة صلاحيته منتهية وفقاً للتاريخ المدون عليه. 4. تم تداوله في ظروف أو بطرق غير صحية.
لا أثر
ومع ذلك، فلا أثر ملموس لدور مفتشي وزارتي الاقتصاد والصحة في الرقابة على سلامة السلع الغذائية المنتشرة في الأسواق المحلية، والتي إن سلمت من مشاكل التصنيع والصلاحية، لم تسلم من الاحتكار والاستغلال.
في المقابل، يمارس بضعة رجال من جهاز الشرطة يرتدون لباساً مدنياً يحملون الهراوات، نشاطاً رقابياً محدوداً على حركة البيع النشطة في الأسواق داخل مدينة غزة وشمالها، لكن ذلك لم يتجاوز حدود مصادرة بضعة كميات من السلع التي تشهد احتكاراً غير مسبوق. والتي في مقدمتها سلعتي الدقيق والأرز.
هذا الاجتهاد الذي لا يستند إلى قاعدة قانونية، ولكنه يمثل سلوكاً محموداً بالنسبة لبعض السكان، لا يغني عن وجود دور حقيقي لمفتشين ومراقبين حكوميين يضمون حماية المستهلك من التعرض للغش والاستغلال، ويحافظون في الوقت نفسه على صحته.
على ضوء ذلك، قال المحامي بلال البكري إن ما تقوم به عناصر الشرطة، لا يغني عن دور مفتشي وزارتي الصحة والاقتصاد الوطني (حماية المستهلك) وذلك من أجل اتخاذ المقتضى القانوني الخاص بالمخالفين طبقاً لما نص عليه قانونا الصحة العامة وحماية المستهلك على حد سواء.
ولسد باب على الجوع، كانت قد فتحته الحرب على أصحاب الدخل اليومي، فقد باشر العديد منهم لتصنيع سكاكر وأطعمة منزلية مكونة من صبغات ومواد يشتبه أنها لا تتوافق مع قانون المواصفات والمقاييس الفلسطينية رقم (6) لسنة 2000م والذي ينص في المادة (30) إذا كانت السلعة أو المادة التي تخضع للتعليمات الفنية الإلزامية غير مطابقة لتلك التعليمات، فعلى الجهات الرقابية المختصة أن تصدر أمراً بمصادرة تلك السلعة أو المادة أو إتلافها أو إعادة تصديرها أو إعادة تصنيعها في صورة تطابق تلك التعليمات، وإرسال إنذار خطي إلى صاحب تلك السلعة أو المادة أو منتجها، تطلب إليه التقيد بتلك التعليمات خلال المدة التي تحددها له الجهة المسئولة أو المعنية.
وبلا شك، فإن هذه الأنشطة التي يمارسها السكان، تحتاج إلى ممارسة دور رقابي نشط وفعال لضمان عدم إلحاق مخاطر صحية بالمستهلكين -الذين يضطرون تحت وطأة الجوع ونقص التغذية لشراء أطعمة وأغذية غير معروفة المصدر- وهم أيضا بحاجة لاتخاذ الاجراءات الكفيلة بالحفاظ على حقوقهم التي يكفلها القانون ومعاقبة من يثبت تورطه في إلحاق المخاطر الصحية.
ولا يعلم إن كانت إشاعة حالة الفوضى في السوق المحلي بشكل خاص، وبين سكان القطاع عموماً هو واحد من أهداف الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، لكن ذلك لا ينفي أن تحاول الجهات الرقابية حماية السكان من الاستغلال على الأقل، طبقاً لما قاله المحامي البكري.
وأوضح المحامي البكري أن الجهات الرسمية مسؤولة عن تردي حالة السوق، لأن ممارسة الدور الرقابي يعد جزء أساسي لتعزيز الجبهة الداخلية، وبمثابة إعادة وصل للعقد الأخلاقي الذي انفرط بين البائع والمستهلك.
من جهته رأى الباحث الاقتصادي أشرف إسماعيل، أن الحالة القائمة الآن في السوق المحلي لا يمكن القياس عليها لأنها مؤقتة في الغالب ستنتهي مع انتهاء الحرب، لكن ذلك من وجهة نظره لا يبرر حالة الاستغلال الشائعة في الأسواق من قبل قطاع واسع التجار.
ولم ينكر الباحث إسماعيل أن العقد الأخلاقي بين البائع والمشتري قد انفرط بسبب الاحتكار القائم للسلع واستغلال حاجة السكان الذين يعانون من ضائقة مالية غير مسبوقة بفعل انعدام السيولة وتوقف البنوك عن العمل ونفاذ مدخراتهم طيلة هذه المدة من عمر الحرب والتي تجاوزت شهرها الخامس.
وقال إن السوق لا يمكن أن يستعيد عافيته، سوى بعودة الهدوء والاستقرار إلى القطاع وإعادة تفعيل الأدوار الرقابية على عملية البيع وكبح جماح المحتكرين ووقف حالة الاستغلال، إلى جانب ضرورة العمل الفوري على تفعيل الإجراءات الوقائية المتعلقة بسلامة المنتج الغذائي، لاسيما في ظل اضطرار المواطنين لشراء خضار ومواد غذائية مضرة على المستوى الصحي.