وضعت هدى بركات في روايتها الحديثة "هند أو أجمل امرأة في العالم" الصادرة عن دار الآداب (2024) نقطة جديدة لبداية تشكّل الصوت الأنثويّ روائياً من خلال الأمومة أوّلاً التي ظهرت بعد مشهديّة تراجيديّة منطلقةً نحو العالم وأحواله ومن خلال "هند" التي بدأت تبحث عن نفسها بعد اغتراب نفسي وغربة زمكانيّة، لتتجاوز بذلك فكرة البحث عن الذات التي اقتصرت على المحيط والمجتمع نحو فكرة البحث عن الذات في المكنون وفي الآخر (الأم ) الذي تشكّل على مراحل وجرعات ثقافيّة وسلوكيّة، فكيف ظهرت الأمومة؟ وإلى أيّ حد اكتسب القيم طابعاً وجودياً جعلها أقرب إلى شخصيّات متحرّكة؟
صوتان روائيان
يلاحظ ميشيل فوكو في تعريفه الفلسفة أنّ الأخيرة تعنى باللحظة الحاضرة على عكس ما يشاع عادة عن تناول الفلسفة لتساؤلات الغد أو ترسّبات الأمس، وفي مدوّنة بركات التي كان مطلعها درامياً يبدأ بتشرّد هند النفسي والكياني "... بل بسبب أنّ أرض الله الواسعة لفظتني" (ص.7) والحقّ أنّ توظيف عبارة أكثر شيوعاً وتحمل دلالات كونيّة تنمّ عن معنى الرحمة وقيمتها الإنسانيّة لتوصيف واقع الشخصيّة القاتم- والتي دفع الكاتبة إلى توظيف الـflash back أو الاسترجاع لبناء السياق أيضًا- قد أعطى السرد طابعاً إيقاعياً يمكن تلخيصه في نقاط عدّة:
- أوّلاً على صعيد المشهد: شكّل المشكل الدامس والدرامي الأقرب إلى التراجيديا نصفاً لمشهد ملوّن اتّسم بإظهار جماليّات هند الابنة الخارجيّ بالدرجة الأولى، ولعلّ توظيف الشخصيّات الثانويّة كالطبيب/ الجيران/ الصبية العدائيين... بالاضافة إلى الطبيعة وخاصيّة الوصف قد شكّلوا جميعاً عوامل ساحرة لمشهد ورديّ يلخّص الحنين لدى الشخصيّة من جهة والطباق مع المأساة الحاضرة
- ثانياً على صعيد شخصيّة الأم: لم تكن هند أجمل امرأة في العالم فقط لأنّ مفاتنها ودقّة وصفها وتوصيفها يساعدانها على اكتساب هذه الصفة، بل لأنّ بركات جعلتها في موضع تنافس لاواعٍ مع الأمّ، أوّلاً من خلال التعريف بمفاتن الأخيرة الثقافيّة والفكريّة ( راجع السياق: قراءة القرآن والعهد القديم والجديد، رؤيتها تجاه مارلين مونرو...قدرتها على كتابة الشعر ولو مجازاً) وثانياً عبر العودة إلى ذات هند التي تتأرجح في بحثها عن نفسها بين حكايا الأم من جهة والتحديق في ما آلت إليه الطبيعة من قبح...
-ثالثاً الرؤية السرديّة: للوهلة الأولى يظنّ المتلقّي أنّ الرؤية السرديّة مصاحبة لزمن السرد والحدث لكنّ التناوب السرديّ الحاصل بين الأم وابنتها كان حاضراً، وشكّل توازناً جعل الشخصيّتين ترسمان بعضهما البعض...سواء عبر الأسلوب الحكائي (حكايا الأمّ وذاكرتها تجاه ذاتها وابنتها التي تشبهها ولا تشبهها في آن) أو من خلال الأسلوب الوصفي لا سيّما الخارجيّ المتعلّق بالمساحات الشاسعة التي تبحث عنها هند لتهرب من ضيقها النّفسي، أو عبر العودة إلى الحاضر لهند.
تحاول هدى بركات من خلال نصّها المكثّف أن تقول إنّ الأمومة تتجاوز الرابط البيولوجي، وإنّ الرواية قد تتجاوز من خلال موضوعتها الفكرة نفسها وتعود إلى بنية النّص وتقنيّاته.
الأمومة والرؤية إلى العالم
أخذت مكانة هند الإنسانية وارتباطها بالأم موضعاً يذكرنا بثالوث الناقد الفرنسي لوسيان غولدمان(الله/ الانسان/ العالم).
لم تأت محاولة بركات إلى التعبير عن رؤيتها تجاه الله بصيغة مباشرة وواضحة بالضرورة، فاللجوء إلى الوصف وتسمية الشجر، والألوان، والبداية بموت الأم والترنّح على خشبة الحياة، لكنه يقودنا الى أسئلة أساسية :" لمَ الشقاء منذ البداية؟" لمَ على هند أن تضرب فقط لجمالها؟ لمَ على هند التشرّد؟ لماذا دخلت امرأة غريبة إلى بيتهما؟
رحلة هند الزمانيّة والجسمانيّة دفعت الكاتبة إلى تحميلها مهمّتين: الأولى التنقيب عمّا يعزّز استقرارها من خلال إفراغ حكايا الماضي من بوتقة الذاكرة ولو مؤقّتاً.
والثانية البحث عن أجوبة لإشكاليّة قد تسوّغ هذا الترحال الذي رسمته بركات للشخصيّتين الأساسيتين : عن أي مكان تبحث هند؟ عن ذاك الذي يعيدها إلى ذاتها القديمة أو الذي يرسم ذاتها؟
الشكل الخطّي ودلالة الغلاف
اللافت في لوحة الغلاف التي صمّمها رضا عبدالله، اللون الأحمر وكدلالة مباشرة تقودنا إلى لون الدمّ، ولعلّ اللون بصيغته الفاقعة قد يأخذنا إلى تساؤل: هل أتى دون زخرفة أو إضافات نتيجة الصراعات والعذابات التي تعتلج دواخل هند وأمّها؟ أم هو دليل حبّ وامتنتان تعيشه هند من خلال سرد ذكرياتها مع وعن والدتها؟ فضلًا عن ذلك تأخذنا كتابة العنوان الممزوجة باللون الأبيض ذات الخلفية السوداء إلى صورة دلاليّة تعكس المتناقضات الورديّة السوداويّة التي عاشتها هند وأمّها، لتكون صورة المرأة صادمة مجرّدة من أيّ تبعات جماليّة تجعلنا على يقين بأنّ هند أجمل امرأة في العالم، فاستعمال أو كحرف عطف في العنوان ليس دليلاً على الاختيار أو الاحتمال، بل على أنّ هند معناها أجمل امرأة في العالم أو رياضياً هند= أجمل امرأة في العالم، فهل هند ظهرت على الغلاف بهذه الصورة لأنّها تعاني من قبح العالم رغم جمالها؟ أم هو محض تعبير عن وجود امرأة في عين أمها جميلة فقط؟
تفتح رواية هدى بركات مجالاً للحفر في مصطلح الأمومة وتعريفه من خلال جرعة انسانيّة متماسكة سرديّاتها وتعدينا إلى اللحظات السينمائيّة المؤثّرة التي نتعثّر فيها في مطلع الفيلم أو في منتصف أحداثه، هند لم تكن بالغة الجمال في عيني هدى بركات شكلًا بل كانت من ناحية تكوينها لذاتها ولصور المجتمع أجمل امرأة، ليكون السؤال هل الأمومة قيمة ثابتة أم شخصيّة ناطقة قابلة للتحوّل؟