قضى المواطن الفلسطيني أمجد عبد الفتاح (*) خمسةُ أيامٍ بحثاً عن طردٍ غذائي كان قد وزع على من تبقى من سكن حي الشجاعية شرق مدينة غزة، الذي نزح منه تحت وطأة القصف، واتجه إلى حي الشيخ رضوان غرب المدينة حيث بيت أقاربه.
قال عبد الفتاح (53 عاماً) والذي يعمل موظفاً حكومياً بأجرٍ مقطوع (قيمة مالية محدودة وثابتة)، إنه لم ينل حصته من الطرود الغذائية التي جرى توزيعها على قاطني الحي، وما فتئ أن يبحث من شخصٍ لآخر عن مصدر توزيع تلك المساعدات، دون جدوى.
وأشار الرجل الذي غزا وجهه الشيب، وهو يقطع طريقاً يزيد طوله عن 14 كيلومترا ذهاباً وإياباً، لأجل معرفة مصدر المساعدات والحصول عليها، قائلاً: "الغريب أنني عندما التقيت بالشخص المسؤول عن التوزيع، قال إنّ هذه المساعدات للمقيمين هنا (أي لسكان الحي وليست للنازحين منه)، وعندما عدت للبحث عن الطرد الغذائي في منطقة نزوحي قيل إنّ المساعدات العينية تقدم لقاطني الحي وليس للوافدين إليه".
"بين حانا ومانا ضاعت لحانا"، يستخدم الرجل هذا المثل الشعبي في التعبير عن حالة التشتت التي يعانيها السكان، نتيجة الضبابية التي تسيطر على توزيع المساعدات في عموم قطاع غزة وشماله على وجه الخصوص.
ضبابيةٌ تدفع باتجاه السؤال عن حقيقة وجود واسطة ومحسوبية قد يتسبب بها أفراد من (منظمات أممية، أو تنظيمية، أو حكومية، أو عشائرية)، تقوم على توزيع المساعدات وفقاً لآليات غير واضحة؟
هكذا يتلقى السكان المساعدات
شاع الفقر بين سكان قطاع غزة -الذين يزيد عددهم عن 2.3 مليون مواطن، ثلثيهم يُقيمون في جنوب القطاع- بفعل الحرب المستعرة منذ ثمان أشهر وتبعاتها من غلاء واحتكار غير مسبوقين للسلع الأساسية بالتزامن مع انعدام كامل في فرص الدخل.
فقرٌ جاوز حدّه، وقاد العديد من السكان للبحث عن المساعدات العينية والإغاثية عبر طريقين: الأول المناطيد التي تلقي بها الطائرات عبر الجو، والتي تسببت بمقتل العشرات نتيجة التدافع، وطريقة أخرى تتعلق بإدراج أسمائهم في قوائم النازحين في مقار الإيواء التي تشرف عليها منظمات أممية وعشائرية وحكومية، للحصول على المساعدات أسوة بما يتلقاه هؤلاء النازحين.
وفي الوقت الذي تشيع فيه الفوضى في الطريقة الأولى، ففي الطريقة الثانية تشيع الضبابية التي تُغيّب حق العديد من السكان في الحصول على المساعدات، وبخاصة الأسر المتعففة أو الأسر التي تُعيلها نساء لاسيما الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن بفعل الحرب، والتي أودت بحياة أكثر من 34 ألفاً من المواطنين، 72% من الأطفال والنساء.
تقول السيدة سهى عبد الله (*) إنها لم تحظ بفرص متساوية مع جيرانها الذين حصلوا على مساعدات تتمثل في كيس من الدقيق زنة (25 كيلوا جرام)، وطرد يحوي معلبات، فيما لم تحصل هي وأسرتها المكونة من ستة أفراد سوى طرد معلبات.
وقالت عبد الله (34 عاماً)، "ليس هناك عدالة في التوزيع، ومن الواضح أن هناك سرقات للمساعدات التي نسمع عن تدفقها بشكلٍ شبه يومي إلى شمال غزة"، لكنها لم توجه أصابع الاتهام لأية جهة. وعن دواع ذلك قالت: "في الحقيقة أنا لا أملك دليلا على وجود حالات سرقة، لكن هناك الكثير من علامات الاستفهام على الآلية المتبعة في التوزيع (..) لماذا يحصل مواطنون على مساعدات عينية أكثر من غيرهم رغم التساوي في عدد أفراد الأسرة؟".
وكانت المواطنة عبد الله تنحدر من أسرة ميسورة الحال قبل اندلاع الحرب، غير أنّ تدمير ممتلكات الأسرة، أدى إلى فقدان مصدر الدخل، مما أثر بشكلٍ سلبي على الظروف المادية للأسرة.
كيف تساوى السكان في الفقر؟
وسحقت الحرب الطبقية المجتمعية التي كانت تسود قبل السابع من تشرين الأول الماضي في غزة، بمعنى أنه لم يعد هناك أثراً ملموساً للتفاوت الطبقي بين السكان، وبخاصة بعدما مُني الكثير من رجال الأعمال بانتكاساتٍ بفعل تدمير ممتلكاتهم (الخسائر الاقتصادية تُقدّر قيمتها بـ 33 مليار دولار، وفقاً للإعلام الحكومي بغزة)، فيما حرم الموظفون من الحصول على رواتبهم بشكل منتظم بفعل تعطل عمل البنوك، أما بالنسبة للأسر الأشد احتياجاً فلم تتلق المساعدات العينية التي كانت تظفر بها عبر وزارة التنمية الاجتماعية كل ثلاثة أشهر.
تلك المعطيات برمتها قادت إلى تردي الأحوال المعيشية لدى غالبية السكان، لذا؛ أصبحت المساعدات احتياجاً ماساً لجميع الأسر التي ترزح تحت نير الحرب، بصرف النظر عن الحال الذي كانت تعيشه قبل ذلك.
وحتى قبل أن يتساوى الجميع في الفقر، فإنّ القانون الأساسي الفلسطيني كفل للمواطنين حقوقهم سواسيةً، خصوصًا في باب الحقوق والحريات العامة المادة (9) والتي تنص على التالي: "الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة." فيما، نصت المادة (10): "حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام ".
وبالنظر إلى القانون ومقارنته مع الوقائع على الأرض، نجد أن هناك تبايناً واضحاً بين أفرادٍ وآخرين من السكان في مستوى الحصول على المساعدات، حتى وإن كنا عجزنا عن إحصاء عدد كميات المساعدات التي دخلت إلى عموم القطاع وشماله على وجه الخصوص، لكنها بالتأكيد تكفي لأن يدخل لكل فرد من أصل 700 ألف مواطن لازالوا متواجدين في الشمال على سبيل المثال، مساعدة إغاثية أيٍّ كان نوعها أو قيمتها. لكن المفارقة أنّ هناك أفراداً قالوا إنهم لم يحصلوا على أيٍّ من تلك المساعدات!، وإنهم يضطرون لتوفير احتياجاتها الأساسية من السوق المحلية، على نفقتها الخاصة.
في هذا الصدد، قال المحامي أيمن أبو عيشة، إنّ الفلسطينيين يجب أن يكونوا متساوين في الوصول إلى الخدمات، طبقًا لما نصّ عليه القانون الفلسطيني، مشدداً على ضرورة أن تتوفر الشفافية في عملية التوزيع وأن تكون معلنة للمواطنين لضمان العدالة في توزيع المساعدات وإيصالها لمستحقيها، بالإضافة إلى ضرورة اتخاذ كافة التدابير لأجل ضمان تحقق العدالة دون محاباة.
وشكك أبو عيشة، في عدالة توزيع المساعدات، مرجع ذلك لمجموعة من الأسباب، كان أبرزها النزوح المتكرر للسكان والذي أعاق عمل الكثير من المؤسسات الدولية والمحلية فضلاً عن الازدواجية الناتجة عن حجم المساعدات المتدفقة للقطاع وعدد المؤسسات العاملة في المجال سواء الرسمية أو الأهلية، وقدرة أي منها على الوصول للجميع في ظل هذا الكم من النازحين، مؤكدا على أن هذا الأمر أعاق عمل الجهات الرقابية.
وقال: "لقد غاب دور الجهات الرقابية، نتيجة لأن الأشخاص الذين يقومون بتوزيع المساعدات لا يملكون كفاءة عالية وغالبيتهم ليسوا موظفين رسمين في المؤسسات التي يعملون لصالحها، لذا يصعب على القائم بدور الرقابة أن يمارس دوره في التأكد من عدالة التوزيع".
أسباب المحسوبية:
ولم ينكر المحامي وجود محسوبية في توزيع المساعدات على السكان النازحين، لكنه قال "الأزمة سببها الرئيس أن موظفي المؤسسات يفتقدون للأمن والأمان تحت وطأة الحرب، على عكس حالة الاستقرار التي يمكن أن تتعزز فيها الشفافية".
وأضاف "هناك صعوبة في وجود أماكن للتخزين فكل الأماكن أضحت مستهدفة، وبالتالي قد تتاح الفرصة أمام الأشخاص القريبين من نقاط التوزيع، بشكل أكبر من غيرهم من سكان المناطق البعيدة أو الخطرة، أو الأماكن الهشة".
وتعتبر الواسطة والمحسوبية والمحاباة، أحد أوجه الفساد في الأراضي الفلسطينية، وفق ما جاء في قانون مكافحة الفســـاد، رقم (1) لسنة 2005م وتعديلاته، وتصف امتناع الموظف عن أعمال وظيفتـــه أو إخلاله بواجباتـــه نتيجـــة لرجـــاء أو توصية أو لاعتبارات غير مهنيـــة، كالانتماء الحزبـــي أو العائلي أو الدينـــي أو الجهوي، على أنه شكل من أشكال الجريمة.
ويرجع كتاب (مكافحة الفساد: تحديات وحلول) الصادر عن هيئة مكافحة الفساد الفلسطينية، في شباط 2020، أسباب الفساد، إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولها اقتصادية، والثانية ضعف الحكومة، أما الثالثة فأرجعها إلى دوافع اجتماعية وثقافية.
غير أنه أناط بالضعف الحكومي، ثلاثة أمور (قلة معاقبة الفاسدين، وضعف المنظومة القضائية، والاحتلال)، معتبراً أن الاحتلال الإسرائيلي أسهم في خلق بيئة مشجعة على الفساد، واستغلاله لتحقيق مكاسب سياسية، "لأن وجود الفساد يساعد على صرف الانتباه عن الآثار المدمرة الذي يلحقها بالفلسطينيين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً"، طبقاً للنص الوارد.
ومع ذلك لم ينكر الكتاب أن نمط الأعراف والعلاقات السائدة بين الأفراد في المجتمع الفلسطيني، قد ساعدت في تنامي أحد أشكال الفساد المتمثل في الواسطة والمحسوبية، عبر قيام موظفين -على سبيل المثال- بمساعدة أو خدمة أو تسهيل معاملات أحد أقاربهم أو معارفهم.
وبطبيعة الحال، ونتيجة للتوترات الأمنية القائمة، لا توجد بوابة واضحة لإيداع الشكاوى حول غياب عدالة التوزيع، لأجل التحقق منها، ولا حتى مرجعيات رسمية يمكن العودة إليها بالنسبة للسكان المشتكين، وبخاصة بعد التدمير الكامل الذي لحق بالمباني الحكومية (186 مقراً دمر كلياً طبقاً للإعلام الحكومي بغزة)، فضلاً عن إخراج المنظمات الإغاثية الدولية عن الخدمة، وهو ما يدفع الناس للتعبير عن شكاواهم شفهياً أو بالدخول في شجارات أحياناً مع القائمين على مراكز الإيواء.
حاولنا بدورنا الوقوف على الدور المناط بالأجهزة الحكومية للرقابة على عملية التوزيع ومستوى الشفافية، لكنه لم يتسنى الحصول على رد عبر أي منها، وبخاصة وزارتي التنمية والاقتصاد الوطني.
فقدان الثقة والتعدي على الحقوق
ويزكي غياب عدالة التوزيع، بشكل أو بآخر أثاراً اجتماعية سلبية تتمثل في تراجع العدالة الاجتماعية والثقة بالمؤسسات وبخاصة لدى الفئات الأكثر هشاشةً، فضلا عن كونها تشكل تعديا على حقوق الإنسان، إلى جانب أثارها الاقتصادية التي تنامي الفقر وزيادة مستوى الجوع.
لذلك تقول الباحثة الدكتورة هديل قزاز، إن النساء والأطفال والفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، يعانون بدرجة أكبر نتيجة الكوارث أو الحروب التي بدورها تقضي على النظام والإجراءات المتبعة وتتيح فرص متعددة للفساد، مبينةً أن الحروب بوجه عام تضعف الأجهزة الرقابية، أو أي إجراءات أو أنظمة أو قوانين.
وأضافت القزاز في دراسة حول مخاطر الفساد على تقديم الخدمات بالنسبة للنوع الاجتماعي، أن النساء والفئات المهمشة، هم أكثر تضرراً من عدم وجود إجراءات منظمة أو تأخرها، لأنهن يدفعن أثمانا شخصية وبدرجة أكبر بكثير بما في ذلك إمكانية مساعدة عائلاتهن في الخروج من طائلة الفقر، أو توفير الاحتياجات الأساسية.
وأكدت أن الاعتداءات الإسرائيلية تزيد من الاحتياجات المجتمعية عامة، وتدفع بفئات إضافية للحاجة للحماية الاجتماعية، مما يضيف أعباء كبيرة على مزودي الخدمات الذين يعانون أصلا من حجم الحاجة مقابل الموارد المحدودة.
وقالت الباحثة "تدمير الخدمات الأساسية وزيادة الحاجة لدى متوسطي ومحدودي الدخل يدفع بالمزيد من النساء لطلب الحماية الاجتماعية. هذه الحاجة المتزايدة تزيد من مخاطر الفساد لأن مقدمي الخدمات قد يفضلون مساعدة الأقرب منهم، أو يطلبون منافع شخصية مقابل إعطاء هذه المساعدات".
وطبقاً للدراسة، فأنه ليس هناك وعياً كافياً لدى متلقي الخدمات بنظام الشكاوى، والغالبية لا يعلمون أن هناك الإجراءات متبعة، كما أن هناك اعتقاد عام بعدم جدوى الشكاوى أو أنها سوف تهمل أو تمزق أو تؤدي إجراءات عقابية بما في ذلك الحرمان من تلقي المساعدة.
هذا الشعور بحد ذاته كما تقول الدراسة يعطي احساساً لملتقي الخدمة، أنها "منة" من مقدمي/ات الخدمات وليس حق من حقوق المواطنة، وهذا بطبيعة الحال يزيد من فرص الفساد ويخلق أجواء من "الدونية" و"عدم الاستحقاق" لدى الفئات التي تعاني أصلاً من الفقر والتهميش.
بحثاً عن حل
وفي سياق البحث عن حلٍ لضبط حالة الفوضى التي اشاعتها الحرب، وانعكست سلباً على المناحي الحياتية كافة، بما في الواقع الإغاثي، قال المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، عدنان أبو حسنة، أنه لا جدوى من أي جهد لا ترعاه منظمة الأونروا بصفتها أكثر المنظمات الدولية قدرة وكفاءة على توزيع المساعدات في الأراضي الفلسطينية عموماً وقطاع غزة على وجه الخصوص.
وأكد أبو حسنة، أن المنظمة الأممية تملك مخازناً وفريقاً مؤهلاً يعمل منذ عشرات السنوات على دعم وإسناد اللاجئين الفلسطينيين، مشدداً إلى أن الأونروا تشكل ضمناً لعدالة توزيع المساعدات، وأن أطلاق يدها من قبل الاحتلال الإسرائيلي في مواصلة عملها، سيساعد في وصول المساعدات لكافة الأسر.
وإلى حين تحقق إحدى الأمرين: إيجاد أدوات رقابية فاعلة، أو السماح للأونروا بممارسة دورها الإغاثي، أو كلاهما معاً، فإن معاناة الفئات الهشة الناجمة عن غياب عدالة التوزيع ستبقى قائمة.