تبدّلت أحوال الكثير من النساء في قطاع غزة عقب الحرب الإسرائيلية التي امتدت 15 شهراً، حيث سرقت أزواجهن وسحقت أحلامهن، فتذوقن صنوف المعاناة إثر غياب الزوج الذي كان أكثر أشكال الفقد قسوة بالنسبة للكثير منهن.
تتحدث المراكز المحليّة المتخصصة عن أعدادٍ إحصائية كبيرة من الأرامل؛ لكنّ الواقع بضراوته يُشير إلى أنّهن ليسوا مجرد رقم؛ فخلف كل إحصائية تقف امرأة فقدت شريك حياتها في لحظة قصفٍ جوي أو اجتياح بريّ مفاجئ؛ لتجد نفسها مُلقاة بين رياح الحياة القاسية التي تفرض عليها تحدّيات لا تنتهي.
الأرملة في قطاع غزة، أكثر من مجرد لقب؛ بل هي واقع لمعاناة مستمرة من الفقر، والتشرّد، والتهجير، والتعنيف، فالألم لا يتوقف عند فقدان الزوج؛ بل يمتدّ ليشمل فقدان الأمان والاستقرار، ويُرسخ في حياتها سلسلة من التحدّيات اليومية، إضافة إلى ذلك تعيش الأرامل عزلة اجتماعية ونفسية، إذ يصعب على المجتمع المحيط تقديم الدعم الكافي بسبب الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة العامة.
تسلط هذه القصة المدفوعة بالبيانات الضوء على معاناة النساء الأرامل اللواتي يُكابدن في صمتٍ مريب بين سياط الحرب الحارقة وموروثات المجتمع القاسية. وبينما تتوقف أصوات الحرب في قطاع غزة تخرج آهات الثكالى اللواتي يغرقن في زحام الحياة وتُركن وحدهن في مواجهة أعباءً ثقيلة تزداد يومًا بعد يوم وسط ظروف اقتصادية ومعيشية مزرية.
وفقاً لإحصاءات نشرها المكتب الإعلامي الحكومي، تبين أنّه من بين (1.1 مليون) امرأة في قطاع غزة، ومن بين (546,000 ألف) أنثى في سنّ الإنجاب (15-49 عامًا)، هناك (13,901) امرأة أرملة خلّفتها الحرب.
نوال زهدي (*) في منتصف عقدها الثالث، فقدت زوجها وابنها الأصغر على إثر غارة جوية استهدفت مربع خيام، في مخيمٍ نزحوا إليه في محيط جامعة الأقصى بمحافظة خانيونس جنوب قطاع غزة.
عقب تلك الغارة أصبحت نوال، أرملة صحبة ثلاثة أبناء، أكبرهم (10 سنوات)، تقطن في خيمة تفتقر لأدنى مقومات الحياة، تحت ظلال نايلون لا تتجاوز مساحته 12 متراً، لا يوجد سوى غطاءين وبضعة ملابس وأدوات مطبخ يستخدمونها بالتناوب.
وتزايدت الأعباء اليومية على كاهل نوال بعد فقد زوجها، إذ تقول: "لم تمنحني الحياة فرصة الحزن عليه، كانت المسؤولية التي تركها لي أكثر ثقلًا، فأنا لا أكاد أنام بضع ساعات في الليل، فأصحو قبل الفجر؛ لتعبئة مياه الاستخدام، ويساعدني ابني الأكبر في تعبئة مياه الشرب وشراء الحطب للطهي".
وأصبحت هذه المرأة الأرملة تقضي حياتها بين أطفالها في الخيمة بعد فقدان زوجها، فتشغل عدّة أدوار في آنٍ واحد، ما بين أمّ، وأبّ، وممرضة، ومختصة نفسيّة للصغار، وسبّاك لدورة المياه، ونجار يُعدِّل خشب الخيمة، إضافة إلى أعباء أخرى لم تجد لها مسمى كما تقول: "كل يوم رحلة مرهقة جدًا ما بين توليع النار والطهي وتوفير المياه وخبز العجين والغسيل الذي لا ينتهي".
قد يعتقد البعض أنّ مسؤوليات المرأة الأرملة ومعاناتها تنتهي عند أعباء متطلبات أسرتها اليومية، لكن الأمر في واقعه مختلف إذ تبين في ورقة بحثية أعدّها مركز شؤون المرأة في غزة، حول معاناة النساء الأرامل جرّاء الحرب الإسرائيلية التي امتدّت من السابع من أكتوبر 2023 إلى خمسة عشر شهرًا وتدّاعياتها عليهن، أنّهن يُعانين صنوفًا أخرى تُعقِد من ظروف حياتهن وتزيدها مرارةً.
وجاء في الورقة البحثية التي شملت (300 حالة) من الأرامل في قطاع غزة، أنّ (70%) منهن يعانين اضطرابات نفسية شديدة نتيجة صدمات الحرب، فيما تتفاقم مأساتهن نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، إذ بلغت نسبة النساء الأرامل اللاتي يعانين ضغوطًا مالية (88%)، وهي نسبة تصفها الدراسة بالمرتفعة التي تعكس واقع العيش تحت خط الفقر.
وهو ما أكّدته الإحصاءات إذ تعاني (89%) من "أرامل حرب غزة" فقرٍ مدقع بعد وفاة أزواجهن، فالعديد منهن ليس لديهن مصدر دخل ثابت؛ ما يجعلهن يعتمدن بشكلٍ كبير على المساعدات الدولية أو المجتمعية التي غالبًا ما تكون غير كافية.
سلوى منذر (*)، في أواخر العشرينيات من عمرها، لقي زوجها حتفه بعد اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلية إلى مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة حيث كانوا ينزحون في باحته، وعلى إثر ظروف التجويع القسري التي فرضها الاحتلال على سكان شمال القطاع قررت سلوى النزوح إلى الجنوب تنشد الأمن والغذاء لها ولأطفالها.
لكنها وعلى الرغم من ذلك، تذوقت ألوانًا جديدة من التهجير والتجويع، وانهارت أوضاعها النفسية على إثر تردي ظروفها المادية جدًا، إذ تعتمد سلوى في إطعام أسرتها على "التكيّة" القريبة من المخيم الذي رزحت فيه في دير البلح وسط القطاع.
تقول المرأة في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "أنا متعبة للغاية، كرهت نفسي والناس والحرب، لا يوجد طعام جيد لأطعم أطفالي، حتى المعلّبات لا أستطيع شراءها، أصبحت صحة الأولاد متردية، يطلبون أصنافًا من السوق ولا أقدر على توفيرها لهم، كما أنني لا أجد لهم ملابس ولا أحذية يرتدونها، فيمشون حفاة دائمًا".
إلى جانب ذلك، تُعاني سلوى أوضاعًا صحيّة سيئة على إثر إصابتها بالتهاباتٍ رئوية حادّة، وتزايدت حالتها سوءًا لعدم تمكنها من شراء العلاج، تردف: "زوجي كان له راتب شهري، ومنذ عدّة شهور لم أستطع سحب أي شيكل من راتبه، لقد توقف فجأة ومنذ ذلك الوقت لا أعرف كيف أتدبر شؤون حياتي".
وعانت الأرامل من تدهور الأوضاع الصحيّة، وذلك بسبب سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي والعديد من المشاكل الصحية الأخرى كفقر الدم، والصداع، وفقدان الوزن، ومشاكل التنفس، وعدم انتظام الدورة الشهرية، وفقًا لما أشارت إليه اعتماد وشح منسقة برنامج الدعم النفسي في مركز شؤون المرأة، التي أكدت أن أكثر أعراض المشكلات الصحية التي تعاملوا معها هي "سيكوسوماتية" أي مرتبطة بالجسد والنفس معًا، كآلام القولون والمعدة وأمراض جلدية مرتبطة بالتهابات الكبد والبنكرياس نتيجة سوء الأحوال في الخيمة.
لا استقرار ولا أمان
على غرار سلوى، تشير التقارير إلى أن 78% من النساء الأرامل لا يمتلكن مكاناً ثابتاً للسكن، إذ يعشن في مخيمات النزوح أو لدى عائلاتهن بسبب التدمير الكبير للمنازل خلال الحروب، إذ بلغ عدد الوحدات السكنيّة التي دمرها الاحتلال جرّاء الحرب (2023-2025م) بشكلٍ كلي (161,600)، فيما خلّفت الحرب أيّضًا (82,000) وحدة سكنية غير صالحة للسكن.
عدا ذلك، وثقت تقارير محليّة ودولية ارتفاع حالات العنف ضدّ النساء الأرامل في غزة بنسبة (40%)، إذ أشارت دراسة مركز شؤون المرأة إلى أن العديد من الأرامل أجبرن على قبول زواج بالإكراه أو فقدان حقوقهن الاجتماعية بسبب تقاليد اجتماعية ضاغطة. كما تواجه العديد منهن "انعدام الخصوصية"، فلا يتمتعن بحرية القرار في حياتهن الشخصية أو الاجتماعية، ففي مجتمع محافظ، تُستغل وضعياتهن الاجتماعية الهشة لصالح آخرين.
بعدما فقدت مروة جابر (*) زوجها الذي قتلته قوات الاحتلال في مخيم البريج وسط قطاع غزة، ونزحت مع بناتها الثلاثة إلى خيمةٍ في مواصي القرارة، جاء سلفها (أخ زوجها) ووالدته ضيوفًا إلى خيمتها لمواساتهم، ومع مرور الوقت استقروا معهم، تقول: "كنت أشعر بالخجل الشديد عندما أضطر للنوم وهو في المكان ذاته، وعندما طلبت أن أستقل طردنا سلفي من خيمتنا".
واضطرت السيدة إلى النزوح مع صغيراتها في ظروف أمنية معقدة وتحت القصف والرصاص والبرد والمطر الشديد فعانت الخوف وعدم الأمان مع أطفالها، تردف، "كان الوضع خطيرًا جدًا وتعبت كثيرًا حتى وجدت مكانًا آمنًا لي ولبناتي".
وتشير مروة إلى أنّها واجهت ضغوطًا شديدة من عائلة زوجها وعائلتها أيضًا للقبول بطلب شقيق زوجها، بالارتباط منها، لكنها رفضت الفكرة منذ البداية وأصرّت أن تبقى بلا زواج، ومقابل ذلك تحمّلت الكثير من العنف اللفظي والأذى النفسي والمضايقات حتى طردت من الخيمة ولم تنتهي معاناتها بعد، إذ تُحاول عائلة زوجها الاستحواذ على البنات والتحكم في مستقبلهم أيضاً.
في الأثناء، قالت المحامية سهير البابا منسقة العيادة القانونية في مركز شؤون المرأة بغزة، إن هناك بعض النساء الأرامل طردهن أهل الزوج من بيوتهن ولم يتحملوا أي التزام اتجاه الأرملة وأولادها، كما أنّ بعضهن عانين التحكم الزائد بالأولاد ومحاسبة الزوجة الأرملة على تصرفها في أموال الأيتام.
على إثر ذلك، واجهت النساء الأرامل آثارًا نفسية عميقة، وهو ما أكّدته المختصة النفسية سلمى السويركي بأنّ معظم الأرامل تعرضن لمستويات عالية من التوتر والضغط النفسي بسبب فقدان الزوج؛ مما يزيد إحساسهن بالعزلة وعدم الأمان.
وأفادت المختصة السويركي، أنّ الأرامل أصبن بالكثير من اضطرابات الاكتئاب والقلق واضطرابات الأكل، بالإضافة إلى اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، وذلك نتيجة للمعاناة اليومية من فقدان الأمان الشخصي والاقتصادي، كما أن المسؤولية الكبيرة في تربية الأطفال وإدارة شؤون الحياة فاقمت شعورهن بالعجز والتعب النفسي.
يتقاطع مع قالته المختصة النفسية، مع ما تؤكده الإحصاءات التي نتجت عن الدراسة البحثية الخاصة بمركز شؤون المرأة بأنّ (89%) من حالات الأرامل يعانين الاكتئاب والصدمات، و(88%) منهم يعانين الوصول إلى دورات المياه، أما (70%) منهم لا يحصلن على الاستحمام الكافي، فيما تحصل (40%) منهم يحصلن على الغذاء أحيانًا، وأخيرًا فإنّ (9%) لا يحصلن على الغذاء يوميًا، و(7%) منهم يعانين انعدام الخصوصية.
من ناحيةٍ أخرى، وبسبب استهداف بعض المحاكم الشرعية جرّاء الحرب الإسرائيلية، وقصر العدل، ومقرّات الشرطة والجهات الحكومية، بدأت تطفو المشاكل القانونية إلى السطح، حيث فقدت الكثير من العائلات ملفاتها القانونية وملفات القضايا والأوراق الثبوتية والملكية والعقود الأصلية، وهو ما أشار إليه مركز الأبحاث للاستشارات والحماية للمرأة، مبيناً أنّ الأرامل عانين من الكثير من التعقيدات القانونية.
وقالت المحامية سهير البابا إنّ أبرز المشكلات القانونية التي عانتها الأرامل تحت الحرب، هي التحكم في مناحي حياتهن ومقدراتهن وتقييد حركتهن، ونقلت عن بعض النساء شكواهن من "تدخل الرجل في قرارات جوهرية وأساسية في حياتهن".
وأفادت البابا أنّ وجود حجة ولاية من الجد أو العم على أبناء الأرامل، شكّل عائقًا إضافيًا، فضلا عن تناول الولي أخذ المساعدات بدلاً عن الأرامل، وهو ما شكّل عائقًا أمام إثبات الشخصية وإثبات وفاة الزوج وهوية الأولاد ومشاكل أخرى تتعلق بالوصاية والولاية والكفالات وحضانة الأولاد في ظلّ غياب المحاكم والقوة التنفيذية.
أريج محمد (*) زوجة شهيد سافرت من قطاع غزة خلال الحرب إلى جمهورية مصر العربية حاليًا، قالت إنّها بعد استشهاد زوجها وكل عائلته وفقدان البيت بما فيه من أوراق ثبوتية قررت السفر مع أولادها، فاحتاجت أوراق رسمية منها ورقة عدم ممانعة من السفر وإجراءات قانونية لكن توقف المحاكم ووزارة الداخلية عن العمل حال بين مقدرتها على استخراج شهادة وفاة لزوجها أو الوصول لأمواله وأملاكه".
وبينت الإحصاءات صعوبة في وصول النساء للعدالة أثناء الحرب على قطاع غزة، إذ ظهر أنّ (63.9%) من المستجيبات الأرامل للدراسة واجهن مشاكل بعد وفاة أزواجهن، منهن (50%) رفض أهل الزوج السماح لهن بحضانة أولادهن بعد وفاة الزوج، فيما (41.5%) منهن غير قادرات على استخراج شهادة وفاة لأزواجهن، كما أنّ (18%) غير قادرات على إصدار حجة إرث، و(76.4%) غير قادرات على تلقي المساعدات الإنسانية.
في هذا الإطار، أوصى باحثون على ضرورة التمكين القانوني للنساء الأرامل من خلال رفع الوعي القانوني وتعريفهن بحقوقهن والإجراءات المتبعة وتوجيههن للحصول عليها، إلى جانب ضرورة التمكين الاقتصادي للأرامل من خلال دعمهن اقتصاديًا وفتح مشاريع صغيرة لهن تضمن لهن الحصول على احتياجاتهن الأساسية واحتياجات أولادهن. بالإضافة إلى أهمية مساعدة النساء للوصل للمساعدات الإنسانية بأمان، وتكثيف الدعم النفسي الفردي والجماعي وتوفير العلاجات التي يحتاجونها.