اللوحة الفنية المرسومة بضربات تجريدية مُبسّطة، تصوغها ريشة عاتية وعاصفة أحياناً ، تجمع الشكل بعد أن تفككه،تحمل بدلالات ألوانها وأشكالها وتعابيرها، شحنات واسعة الدلالة والتعريف والرأي والفكر،واذا تحوّلت مساحة التفسير والدلالة في حركية اللون، وشطحت في اتجاهات التعريف والتشكيل والتعبير، تحتقن في نواحيها الجمّة، حركة تجريدية شاملة ومفتوحة على وعي بصري مُستتر، تضع العين في مهبِّ التّفاسير والدّلالات الكثيرة،المتفرعة والمتشظية،كنشاط تعبيري مُتلاحق.
وحال ذاك الترادف التجريدي ينطبق على لوحة الفنان السوري الرفاعي أحمد، الذي صال وجال في غُرباته المُتعددة، ولم يهدأ روع تشتته في البلاد التي وطأها والبحار التي عبرها، إلّا بعد عذاب دهري غالبَهُ، ومعاناة بلغت حدودها المرّة، وبعدما وجد ملاذاً في بلاد الغربة، بلاد النمسا، ابتكر مرحلته الفنيّة الجديدة، واحتضن اللون الناري الأحمر والأسود، مسبوقاً بقافلة اللون الأبيض والرمادي الغائم ، وغاص في حركة لونية اكليريكية- تجريدية، تحوّلت الى لولبية-سهمية-خاطفة، وزوبعية بحدود مفتوحة ، فأصبح للأرقام والرموز دور كعناصر تكوينية في لوحاته.
تحت عنوان «الخرائط، أصداء المنفى»، قدم الفنان لوحاته وسط بيروت، غاليري «مايا»، بمعرض فردي، تحت إشراف رندة صدقة.
مناخ تجريدي
أسلوب تحويلي، توليدي، تخريبي تعبيري، تلويني، تراتبي.. يفيض ويجري ليصب في مناخ تجريدي حافل وعابق ، يحاول،قدر الاشارة والتعبير والتجريد، تقديم ملاحظاته، ملاحظات الفنّان على تآكل الهوية بفعل الهجرة التي وقع فيها أو أجبر على خوضها،والضياع في متاهاتها القاسية،المؤلمة.
لوحات مُتعددة الأشكال، كبيرة الحجم الى وسط، تخزن وقائع رحلة الفنان مع القلق والتشرد في مناخات البلاد البعيدة الباردة، بلاد وموانيء تحتدم في ذاتها وحول عذابات الفتى التائه في غربة مفتوحة على غربات.
وبلغت عُزلة الفنان بتشرده حتى وصلت الى مرحلة اللاوصول، يكفي أنه قفز من السفينة التي تحمله لتبعده،لتنفيه الى منفى آخر.
استطاع مراوغة حرس السفينة والقبطان وقفز الى عميق المياه،فرّ سابحاً بجسده الهزيل في بحار باردة... تنقل وهرب ولجأ الى العديد من البلاد البعيدة،بعدما هجر بلاده الأصل، لكنه لم يصل الى بر أمانه الموعود.بقي في متاهة وعذاب وتشرد طيلة دهر صغير في مساحة عيشه وترحاله، الى أن اهتدى الى النمسا التي استقر فيها، الى حد ما.
وقائع الهجرة والتشرد والسباحة عكس تيار الحياة وأنظمتها ومدنها، حشدها الفنان في توليفة تجريدية داخل كل لوحة من لوحاته.
الصارية الحمراء في السفينة، المجذاف في المركب، نقش الخشب في خشب المركب،الحروف والأرقام والكلمات واشاراتها للتائه... كلها تمثّلت في دائرة التجريد المعبر، المُجيب على سؤال الهوية التي يحملها التائه. فأية هوية تثبت انتماء هذا الانسان الحائر في مدار هروبه وانتحاره بعدما قرر الفرار من جحيم عايشه في أرض أولى تحمل تسمية،وطن!
تتميز لوحته بمقدرة الفنان على تثبيت الشكل الذي يتخيله سواء من الواقع أو الخيال في شكل جديد تماما قد يتشابه أو لا يتشابه مع الشكل الأصلي للرسم النهائي مع البعد عن الأشكال الثابتة في أرض الوجود،الأشكال الهندسية .
لكنه حاول التجريدية الفنية، بمعنى الأصل الطبيعي، فنصب رؤيته من زاوية هندسية، إذ حوّل بعض الأشكال والمناظر والصاريات إلى مجرد أشكال بمثلثات ومربعات ودوائر، فتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطع من الحجر أو أشكال السحب، أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة في الخيال ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في دلالاتها شيئاً من خلاصة التجربة الفنية التشكيلية التي مر بها الفنان. غير أنه يقارب المذهب التجريدي في الرسم، يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية، التي أثارت وجدان الفنان التجريدي.
كما أنه يحاول «تجريد» المضمون بما يحقق له التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالشكل يتمثل في لوحته كما اللاشكل أيضاً في لوحته، يتمثل بتجريد الأشكال الواقعية من مفاعيلها البصرية : النور والضوء والشمس والعتمة وكرة اللعب والخشبة المسندة وما إلى ذلك. يستبدل الأشكال الساكنة بالأشكال المتحركة خاصة ما تحدثه بتأثير الضوء، كما في ظلال الراية أو العلم الذي يبعث الضوء فيتحرك الشكل، حيث تظهر الظلال كمساحات متكررة تحصر فراغات ضوئية فاتحة، ولا تبدو الراية بشكلها الطبيعي عندما تكون ظلالاً، بل بشكل تجريدي.
وحضرت الروح في مربعات ومستطيلات ودوائر وخطوط مستقيمة أو منحنية أو متعرجة، بإعطائها لوناً معيناً وترتيبها وفق نظام معين. ويبدو هذا واضحاً في لوحته .