في ليلة باردة من شتاء بيروت، تقاطر محبّو المسرح إلى مبنى قديم العهد في برج حمّود يحتضن منذ العام 1958 "سينما رويال" التي عرفت سنوات العزّ وويلات الحرب. ثلاث نساء يقفن على خشبة مسرح شهد أفراح بيروت وأتراحها، لكلّ منهنّ دورها في مسرحية تحمل اسم "وحياتك عَ بيروت"، الأشبه بنداء موجّه إلى سائق سيّارة أجرة، يأخذنا إلى أزقّة المدينة و"زواريبها" وكوابيسها وأحلامنا المؤجّلة فيها.
المشهدية الصاخبة والمشحونة بالمشاعر القويّة، التي تحفّر عميقاً في النفس لتُخرج ما فيها من عوالق ونوازع وذكريات، قوامها ثلاثة وجوه أنثوية، تطلّ ببراءة وثقة على جمهور متعطّش للفن والثقافة. زينه زيادة، ميليسا حجيج، وسيلين صليبا، يجسّدن ثلاث نساء من أعمار وتجارب مختلفة، تجمعهنّ المصائر الموازية، وإن اختلفت المسارات.
كلّ شخصيّة لديها ما تقوله، والتناقضات توحّد وتخلق ثلاث مشهديّات في مشهد واحد، كما الخطوط التي إذا ما اجتمعت خلقت لوحة متناسقة المعالم.
والعروض تتوالى، من الخميس إلى الأحد، على خشبة مسرح اشتاق إلى الحياة. والذين جاءوا من بعيد وقريب وقفوا وصفّقوا، وخرجوا يتسامرون. وروح المنظّرة الماركسية روزا لوكسمبورغ تبتسم، و"وحياتك عَ بيروت" نجحت بإسقاط ملامح شخصيّة الفيلسوفة البولندية.
وبيروت سجننا الكبير الذي نأبى (نخشى؟) أن نغادره. وجدران المسرح المهجور ملطّخة بالـ"غرافيتي" ورسائل الحبّ وأحرف الألم والخشية والهواجس، التي تركها أبناء المدينة تصديقاً على أحكام الحياة.
وروزا كلّما غادرت سجنها عادت إليه. و"صحّتها على قدّقها"، وعمق ثقافتها يزيد عذاباتها. وخارج الزنزانة الحقول المزهرة والعصافير والشمس تنتظرها. وفي رأسها أضغاث أحلام، وهزج موسيقى آتية من بعيد. والأدب يسكنها، وثنائيّة الفرح والحزن. وفي الأعماق رأت مأساة الآخرين وفهمت آلامهم.
وفي المسرحية شيء منّا، ولا بدّ من أن نجد ما نتماهى معه. والمدير الفنّي جان عبد النور يبتسم لعودة المسرح ونجاح المسرحية. والجمهور يُشعل الصالة و"البلكون" تصفيقاً. وفي الشارع الهادئ سار رجل وحده تحت زخّات المطر. خرج مُثقلاً بأفكاره التي تغذّيها الليالي البيروتيّة، والتي نكأتها واقعيّة العرض. وعلى الرصيف المبلول رجل آخر يسير مع كلبه الأعمى، والكلب يُعاند المشقّة، والرجل يريده أن يحفظ رائحة الأرض وطريق البيت علّه يعود سليماً إذا هرب من غير قصد. والمسرح هكذا يفتح أعيننا؛ وبيروت، حبسنا الكبير، تفتح ذراعينا لتضمّنا. لتبتلعنا فلا نخرج منها إلّا "بطلوع الروح"، وكلّما غادرناها، عدنا إليها بملء إرادتنا.