جوهر شهادة جبران تويني عليمٌ به رودي رحمة. الشاعر والنحّات والرسّام يعرف جيّداً أثمان الولاء للوطن وللفكرة التي تقوم بها وعليها الأوطان؛ يُدرك ثقل الانتماء للأفكار السامية التي ترتقي بالشعوب وأنظمتها، ويفقه لعبة الظلم والنور، ويُردّد مع "النهار" شعار الانتصار: "الفرق بين العتمة والنور... كلمة"، والكلمة اسمها جبران.
تحلّ ذكرى استشهاد جبران تويني، وككلّ عام يلتقي الأصدقاء والأوفياء. غصّت "النهار" بهم، وكان رودي واحداً منهم. أنجز عملاً تكريمياً للّذين رحلوا، جبران تويني الجدّ المؤسّس، نجله غسان، عميد الصحافة، وشهيد لبنان والكلمة الحرّة جبران. أتقن رودي لعبة الأضواء والظلال. الظلمة موت، ومنها تنبعث الحياة. في زاوية هادئة تطلّ على مرفأ بيروت المخلّع منذ أكثر من أربع سنوات، تربض طاولة مكتبته. خشبيّة، عنيدة وصلبة، شهدت ولادة أفكاره التي أرعبت القاتل الجبان.
لوحة رودي رحمة في "النهار". (نبيل إسماعيل)
الزاوية مستحدثة، كما المكتب الذي عصف به حزن الفراق في كانون الأول (ديسمبر) 2005، وعصف به انفجار الرابع من آب 2024. بين التاريخين تاريخ من نضال وطنيّ ورفض للاستسلام. هناك فلسفة عميقة خلف مسيرة "النهار"، التي ولدت ذات رابع من آب قبل 91 عاماً. يتعدّى الأمر كتابة التاريخ نحو المشاركة في صناعته. هكذا أرادها جبران المؤسّس، وعلى النهج جبران الحفيد، إلى أن ظنّ أعداء الكلمة أنّهم بإسكات صوته سيطفئون نوره. مساكين! لم يعلموا أنّ الأرواح التي تنذر نفسها في سبيل الوطن تتحوّل قرباناً لا يفقد قدسيّته، ونبضاً يزهر في قلوب المؤمنين بالحريّة.
جسّد رودي فكرة الاستشهاد بروحيّة المؤمن وردةً على طاولة مكتب جبران، ونوراً يشعّ في الأسفل، ينساب ويتدفّق بين حطام الزجاج، ورمز الألم ومخاض قيامة الأوطان. للضوء قدرة على تفتيت الصلب وتجاوز لجّة الحزن واليأس. رودي المؤمن بالفكرة التي لا تموت أبدع في مزج الشعاع بالسواد، في بحر من حطام زجاجيّ تنام فوقه قذائف نحتها إزميله على الخشب؛ إذا ما نظر إليها الزائر بتمعّن أدرك أنّها أقلام مروّسة، مسنونة لتقطّع جماد المواقف وتُذيب برودتها. تلتقي العتمة بالضوء في نقطة مدوّرة، أشبه بالقربان المُقدَّم على مذبح الوطن. للأوطان مذابح، والأثمان باهظة، وثمّة ذبائح لا تخاف التضحية، تسير نحو المذبح بفنّ مبتسم، وأعين ثابتة تُحدّق بالشمس والنار، من دون أن ترفّ جفونها.
رودي رحمة أمام التركيب الفنّي الذي أنجزه في "النهار". (نبيل إسماعيل)
استشهاد جبران لم يكن مجرّد فقدان صحافي، بل كان استشهاد فكرة وتجدّدها في آنٍ. يقولون إنّ الحرّية قدر الأحرار، وإنّها تولد من رحم متألّمة. صحيح. جوهر استشهاد جبران أنّ الوطن لا يبنى إلا على الحرية، ولا يقوم إلا بها وبوحدة أبنائه، مهما تعاظمت الضريبة. نور الفكرة الذي مزّق الزجاج في التركيب الفنّي، الذي أنجزه رودي يُضيء جداريّة ضخمة ألوانها زاهية، تصرخ بوجه الظلمة، تقول جهراً إنّ "جبران تويني لم يمت، والنهار مستمرّة". تلك كانت وصيّة غسان لمّا أدركه ألم الفقدان.
تؤرّخ اللوحة التي تضمّ جبران وغسان وبيروت وصحفات "النهار" مسيرة 91 عاماً على صياح ديك "النهار" لأول مرة. "كانت ألوان النهار يومها محكومة بإزالة الانتداب الأول"، يقول رودي شارحاً عمله الضخم. "ناضل جبران الجدّ، وجعل من صباحات النهار مساحة وطنية، وكان الاستقلال الأول". رافق غسان دولة الاستقلال حتى "حروب الآخرين على أرض لبنان"، كما وصفها مُصيباً؛ وطوال تلك الحقبة، كانت "النهار" تصنع فرصاً للقاء اللبنانيين ولتشكيل الحكومات وتوسيع المساحات الثقافية والرياضية والاقتصادية على صفحات جريدة أصبحت الحاجةَ اليومةَ لبلد مطبوع على الألم والأمل.
استمرّ ديك "النهار" مع جبران يصيح عالياً، فأزعج الطغاة، وحملهم على الرحيل. شهد الحفيد الاستقلال الثاني، وذيّل توقيعه بقَسَم "أن نبقى موحّدين"، كاتباً بحبر الجريدة شهادة غدر أودت به شهيداً.
وردة على مكتب جبران تويني. (نبيل إسماعيل)
في استشهاد جبران درس بأنّ الموت ليس نهاية، بل بداية لصوتٍ أقوى، لحلمٍ أكبر، لوطنٍ يولد من رماد الظلم. هكذا أراد رودي أن يقول في لوحته التي تغطّي جداراً يطلّ على أطلال المرفأ. يحضر إرث جبران تويني في العمل بشكل مكثّف، تُمزّق ضحكته التراب الذي ارتقى فوقه وتركه يطمر أحقاد الجبناء. صوته حاضر في كلّ صرخة ترفض القيد، وفي كلّ قلم يكتب لبنان الذي حلم به: لبنان الحرية، الوحدة والاستقلال.
سلام على روحه، وسلام على كلّ من سار على دربه، لأنّ الشعلة التي أوقدتها ستظلّ مضيئة، تَهدي الأجيال القادمة نحو وطن يستحقّ أن نحلم به، وأن نعيش لأجله، وربما نموت من أجله.