على مدى أشهر تابعنا مفردات التحضير لتكريم المفكر العربي الكبير عبد الحسين شعبان من قبل دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع، عن المجهودات الفكرية والثقافية للمحتفى به، والمتوزعة على مجالات شتى تراوحت ما بين أدبية وشعرية وقانونية وسياسية وسير تاريخية، وحضور فاعل في مختلف المحافل (ندوات، مؤتمرات، محاضرات، مقابلات)، وبإجماع شبه تام على أن دينامية هذا الرجل (المفكر= شعبان)، استثنائية وغزيرة، ورصينة وعميقة، تجديدية وحداثوية، تحمل منهجية جدلية في مرافئها وضفافها، وهو ما وفر لها القبول والتأثير، مرتكزة على روافد مكينة، جعلتها تحلّق في فضاءاتنا من دون حدود، فالأفكار كما يقال لها أجنحة تطير بها حيثما تمكنت، وحال المكرّم في يوم الوفاء عام 2024 (عبد الحسين شعبان) تتساوق تماماً مع التوصيف الغرامشي (المثقف العضوي)، الذي يترك بصماته التغييرية في واقع المجتمعات التي تنهل من أفكاره وتتزود بها، وما يرفع من مناسيب تأثيرها، أنها تسمو عالياً عن الدرنات العالقة من رواسب الاختلاف والمخالفة، بسموّ التسامح واللاعنف والقبول للآخر، وترك مجريات الجدل والحوار والتنافذ والارتقاء بالعقل والفكر تجري في أعنّتها.
والجهة التي تبنّت قرار تكريم عدد كبير من المفكرين العرب، منهم نزار قباني، غسان تويني، الحبيب الجنحاني، إبراهيم الكوني، زهور ونيسي، عبد الله الفيصل، إبراهيم العريض، ثروت عكاشة، صالح العجيري، عبد الكريم غلاب... الخ)، انمازت في رؤيتها للتكريم بحسب ما ورد في كلمة الدكتورة سعاد الصباح بأنها "كسر للعادة المحزنة التي اعتدناها وورثناها بعدم تكريم أهل العطاء إلا بعد رحيلهم عن الدنيا، ليختلط التأبين بالتكريم، ونركض لمصافحة يدٍ ملفوفة بكفنها"، هذا التقليد الثقافي خطّ رسمه الراحل الكبير سموّ الشيخ عبد الله مبارك الصباح، وهو ما كان له وقعه المؤثر والمتفرد في الوسط الثقافي والفكري والأكاديمي العربي، استحساناً وقبولاً، واعتباراً وافتخاراً.
وفي مقدمة الجلسة الثانية من حفل تكريم المفكر شعبان في أربيل، التي تشرّفت بإدارتها، طرحت بناءً على مقترح من المفكر شعبان، وبعد التشاور مع الأخ معالي وزير الداخلية الأردني الأسبق سمير حباشنة والأمين العام لمجموعة السلام العربي، والفقيه الدستوري امحمد المالكي، والأديب والمثقف المميز عبد السلام بو طيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة للديموقراطية والسلام، أن نطلق على هامش الجلسة المخصصة لتناول "قراءة في فكر شعبان"، مبادرة الأوساط الفكرية والثقافية المجتمعة، تخصيص يوم "الوفاء للوفاء" للدكتورة سعاد الصباح، بتكريمها، كامرأة عربية – خليجية – كويتية استثنائية، مبدعة وشاعرة ومثقفة، أصيلة في مواقفها، وأمينة على قيمها، فضلاً عن العذوبة والنقاء والصفاء والشاعرية في شعرها، وجماليته المدهشة، وعبق معانيه، والذي ظل مسكوناً بالهم الإنساني، والمشاكس للواقع، الرافض ضمناً لسطوة شهريار، والرافع للفيتو على نون النِسْوة، كما صدحت بها قصائد الشاعرة سعاد الصباح في "قصائد حب" و"امرأة بلا سواحل" و"القصيدة أنثى والأنثى قصيدة" و"فتافيت امرأة"، التي من خلالها جميعاً كوّنت صورة للمرأة الشرقية – العربية في خرائط الشعر الحديث.
قصائدها مكمن عطر يكتظ بالجاذبية، ويفيض بالعذوبة والجمال والجرأة والشجاعة، معبّراً عن عالمها المميز ونبضها الإنسانوي الخفيّ، فهي صهيل فرس عربية أصيلة من أجل الحرية والكفاح من أجل شراكة إنسانية بقيم الحب والاحترام والمساواة، فالنضال من أجل كل هذه المعاني، وإن كان جنوناً، فهو يستحق المغامرة والتضحية، عندما تقول:
سوف أبقى أصهل
مثل مهرة فوق أوراقي
حتى أقضم الكرة الأرضية بأسناني
كتفاحة حمراء
ثم تقول في قصيدة أخرى:
أصعد إلى فضاءات
لم تصعد إليها امرأة قبلي
وأرتكب كلاماً عن الحب
لم ترتكبه سيدة عربية قبلي
أحياناً تجد أن الكلمات لا تعبّر عن المعاني المرتَسمة في مدركات الصورة الشعرية التي تريد رسمها، والتي تظل عالقة في ذهنها، فتستنجد بالألوان كملاذ وسبيل للتعبير عنها، عندما تقول: "ودموعي في ضحى المأساة شلال سخين... وثيابي السود تنعاني لدنيا اليائسين" والدكتورة سعاد محمد الصباح شاعرة واقتصادية وكاتبة وناقدة... تُعد من أهم الشخصيات الأدبية المشهورة والمعاصرة في العالم العربي، تلقت تعليمها الأولي في ابتدائية "حليمة السعدية" بالبصرة، ثم في الكويت بـمدرسة "الخنساء"، وتعليمها الثانوي في مدرسة "المرقاب". حصلت على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1973، والماجستير في الاقتصاد من جامعة لندن عام 1976، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة سري گلفورد عام 1981، عن أطروحتها الموسومة "التخطيط والتنمية في الاقتصاد الكويتي ودور المرأة"، عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وعضو مجلس الأمناء لمنتدى الفكر العربي، وعشرات الجمعيات والمنظمات العربية والدولية.
كرّمتها المُنظّمة العربيّة للتربيّة والثقافة والعلوم (الألكسو) ومقرّها الدائم في تونس، بمناسبة الدورة الثامنة (اليوم العربي للشّعر) في 21 مارس (آذار) 2022، كأبرز شخصية عربية في يوم الشعر العالمي. حصلت على جائزة الدولة التقديرية للآداب والفنون – الكويت، ووسام الثقافة التونسية، ووسام الاستحقاق – لبنان، ووسام الجمهورية الصنف الأكبر – تونس.
ومن الجدير بالذكر أن عبد السلام بو طيب رئيس المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة بالناظور، أعلن بُعيد الندوة عن استعداد مركز الذاكرة المشتركة والمهرجان الدولي للسينما تكريم الدكتورة سعاد الصباح بحضور شخصيات ثقافية وفكرية وفنية عالمية في المغرب.
إن الدعوة لتكريم الشاعرة الكبيرة الصباح، يراد منها كما يقال "لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل"، وهو امتثال لقول الله سبحانه وتعالى ﴿وَلا تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم… ﴾، إن استحقاق تكريم الرائدة سعاد الصباح هو اعتراف وإقرار ووفاء واعتبار، بمكانة سيدة عربية قدمت للشعر الحداثوي عشرات الدواوين، ومثلها كتب ومقالات للتاريخ والثقافة والاقتصاد والسير وشتى الفنون، أننا بإزاء مسيرة طويلة من المنتَج المتّسم بوحدة الفكرة، وثبات البوصلة، وسمو الغاية، ومسؤولية الكلمة، والوطن ومحبته، والعروبة والانتماء إليها، فالكتابة عندها ليست عملاً عبثياً أو استعراضياً، بل هي عملية واعية للتغيير والتجديد.
نتطلع بصدق إلى استذكار المبدعات والمبدعين من أقصى وطننا إلى أقصاه، وعلى رأسهم الشاعرة الكبيرة سعاد الصباح، لجميل صنيعها في "أيام الوفاء السنوية" لتكريم كوكبة من المفكرين والمثقفين العرب على مدى أكثر من ربع قرن، ودعوتنا أن يقرر مثقفو الأمة ومفكروها، تكريم من كرّمت رموزنا، بالمناسبة والكيفية التي تليق بمقامها، ولعلّ هذا الإعلان في يوم الوفاء للمفكر شعبان، إنما هو دليل وفاء واعتراف من الكوكبة المثقفة والنخبة المتميّزة للدور الريادي للمبدعة الكبيرة د. الصباح، فالوفاء توأم الصدق.