سامي أبي خليل
لبنان لا يتحدث عن نفسه، بل الآخرون يتحدثون عنه بالاقتباس منه وكتابة حقائقه، بالاستشهاد بجماله ومبادئه الأخلاقية وتدينه وثرواته.
هذا الشعب الجبّار المظلوم وليس الظالم.
الأعداء والحاسدون كثر وذوو النوايا السيئة أكثر. يبدعون بخلق أحداث لتشويه سمعته لهلاكه ولخدمة مصالح أنانية شخصية مثل الذين خسروا الحروب ويتاجرون بدماء أبنائهم الأبرياء ليبهروا بوجودهم الحزبي الشاذ. ولكسب منصب وزاري في الدولة يتظاهرون مشاغبين بقية المواطنين ولا وجود للعلم اللبناني ويدّعون انهم مقاومة لحماية لبنان بينما يقاومون قيامة الدولة لسلبها ويريدونها بَقَرة حلوب لصالحهم فقط. ولا من شكر لأولئك الذين آووا عائلاتهم لأشهر وقت الدمار والبكاء على الضحايا. هم مثال اللامواطنية ومستهلكيها.
هم يخربون البلد ونحن نصلحه، إلى متى المحاسبة؟
أيام فينيقيا، كانت "أوروبا" ابنة ملك صور، "أجينور"، الذي اختطفها "زوس-جوبيتر"، "وتحول إلى ثور" على شاطئ صور، وأحضرها إلى جزيرة كريت. من هذه المغامرة ولد "مينوس" الذي كان أول وأفضل ملك لجزيرة كريت. أعطت اسمها للقارة الأوروبية والعديد من الفسيفساء والعملات المعدنية من العصر اليوناني الروماني تمجد اسمها في صور وصيدا (متحف بيروت الوطني)، ويوجد عينة في خزانة ميداليات باريس تمثل "قدموس"، شقيق "أوروبا"، الذي جاء لاستعادة أخته، لكنه أحضر معه الأبجدية الفينيقية، ربما لتحقيق التبادل، ولكن عندما رأى أنها أصبحت ملكة، انتهى به الأمر إلى تعليم اليونانيين استخدام الأبجدية.
وقت فترة المجاعة والحكم العثماني، استطاع لبنان، رغم المحن تصدير مثقفيه عندما كان العلم افضل منتجاته.
ومن سَمَّيناهم بالعلماء الموارنة كانوا متخصصين في اللغات القديمة، وخاصة الآرامية والسريانية والعبرية لترجمة الكتب القديمة الشرقية للغرب. هكذا شاركوا كمبادرين رئيسيين في نشأة الاستشراق، وساهموا في قيام نهضة وثورة ثقافية في أوروبا، عبر توسيع معرفتها بثقافات وأديان الشرق.
هل أثّر الموارنة على الفاتيكان؟
صحح الكاثوليك صلاتهم الـ"أبانا الذي في السموات…" حيث تقبلها الناس العاديون، بعد أكثر من 2020 عاماً، كما يصليها الشرقيون الموارنة، بينما اللاتين الفرنسيون يقولون: "... ولا تخضعنا للإغراءات..."، بمعنى "لا تجبرنا على الدخول في التجارب ". كان الموارنة يقولون دائماً "لا تدخلنا في التجارب..."، بمعنى "ساعدنا كي لا ندخل في التجارب". وهذا ما تبناه الفاتيكان منذ عدة سنوات فقط.
كما قال الفينيقيون قبل المسيحيين، إن الله ليس شريراً ليُخضع أحداً، بل الله مسامح كمحبة أهل العائلة الواحدة، يُربّون ولا يُخضعون أولادهم.
لذلك فهو لا يُجبر ولا يُخضع، بل يحمي ويخلص كما يفعل الأب والأم ويسوع المسيح.
وفي ما يتعلق بالإسلام، يتقن الموارنة اللغة العربية كما الآرامية والسريانية واللاتينية، وأن رهبانهم احتفظوا بمخطوطات عربية عن الإسلام في أديرتهم، وربما قاموا بإيواء رجال الدين المسلمين في زمن العثمانيين. رهبانهم أرادوا حماية لغة القرآن العربية ضد تركمنة الكتابات المقدسة. وكان العثمانيون، مثل اللاتين في ما يتعلق بالمسيحية، يعتقدون أنهم "يعرفون" كل شيء عن الإسلام إلى درجة أنهم فرضوا تفسيرهم لبعض السور، فيما كان الموارنة على علم بالمخطوطات الأصلية باللغة العربية الآرامية للقرآن.
وبما أن العثمانيين تركوا حرية العبادة السريانية للموارنة، لذلك، قدّم الرهبان الموارنة امتياز الحرية هذا خِفيةً لأصدقائهم المسلمين اللبنانيين والعرب الذين لجأوا مع كتاباتهم العربية التي ترجمها الموارنة إلى السريانية في أديرتهم. وهكذا، عند قدوم الجنود العثمانيين لفحص الكتب العربية وتلفها، كما دنسوا مراراً الكنائس والأديرة، بقيت النسخة السريانية سليمة. ومن هنا ولدت اللغة الكرشونية، والتي تتكون من الإملاء المنطوق باللغة العربية والمكتوب باللغة السريانية لتجنب سيطرة وهياج الجنود العثمانيين وعنفهم على الكتابات العربية الإسلامية.
على مثال هذه الركائز والرصيد والثروات الثقافية الذي قدمها المغتربون لأوروبا عبر الزمن، اقنعت دبلوماسية لبنان الجميع بفكرة التعايش اللبناني أنها كنز لبنان وبرهان نجاح يقود للخلاص بحل سلمي مماثل للقضية الفلسطينية على هذا الأساس.
صار البعض يسخر ببيار الجميل وجملته "قوة لبنان تكمن بضعفه"، و جَنَّد العديد انفسهم لإثبات العكس بخلق الفتن لكسر التعايش. وأصبح قتل مناصري الحل السلمي من سياسيين وجامعيين ومدنيين حياديين يتكرر لدرجة أن ظنت كل فئة أنها مستهدفة من الآخر.
نفس الأسلوب استُعمل لنسف السلم كلَّما اجتمع اللبنانيون في جنيف أو غيرها لإيقاف الحرب. التدخلات الاسرائيلية رسخت دور الحزب لإبقاء المقاومة وتسميم لبنان وتعايشه.
فعلاً، بقيت الحرب "اللبنانية-الفلسطينية" سبع سنوات حتى بدأت الصحف الأجنبية بوصفها بالأهلية والطائفية بين اللبنانيين. منهم الآخر طمع بالكنز وصار يحاول الاستيلاء على لبنان لربح الكنز، كما فعل الغرب بالبحث عن الغرال الذي يحتوي ويرمز الى القربان بينما القربان هو الكنز. على نفس المبدأ، غلّف بعضهم القضية بالعنف كالاتحاد السوفياتي لتصفية حساباته مع الغرب، ثم تبعهم الإيرانيون. غلّف آخرون القضية بالطائفية لبسط سيطرة التطرّف على الساحات وعلى الفرقاء لنسيان فكرة لبنان ورسالته. واليوم يقتلون حل الدولتين.
لكن التعايش تفوق بالنهاية على العنف، والعيش الهني والسلام حلّا محل الحرب ولبنان أثبت أنه أكثر من بلد، هو فلسفة حياة ورسالة للعالم.