بينما كانت تشتد وتيرة القصف على أحياء متفرقة من قطاع غزة على ضوء الحرب الدائرة منذ السابع من أكتوبر، تعارك المواطن الفلسطيني محمد خليل (اسم مستعار) بالأيدي مع أحد جيرانه في منطقة بيت لاهيا شمال القطاع، ولم يفلح أحد في فض العراك وتطور الأمر بعد ساعات وتحول إلى اشتباك مسلح، انتهى بمقتله، ولاذ المتهم بالقتل بالفرار.
وخلف خليل وراءه طفلين أكبرهما لم يتجاوز ربيعه الثالث، ولم تجد زوجته تفسيراً إلى تطور العراك ووصوله إلى حد القتل. وتساءلت: "ألا يكفي ما تفعله بنا الحرب من قتل؟!".
وفي الوقت الذي تعجز فيه القوى الشرطية عن فتح تحقيق بالحادثة أو البحث عن القاتل وإيقافه في ظل تدمير المقار الأمنية وملاحقة أفرادها واستهدافهم من قبل طائرات الاحتلال، يبحث ذوو القتيل بين أحياء مدينة غزة وشمالها عن الجاني للثأر منه.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد إحصاءات موثقة حول حالات العنف الداخلي الذي وقعت منذ اندلاع الحرب، لكن الحادثة الآنفة ليست الوحيدة التي قادت إلى القتل، ففي مدينة غزة قام المواطن سالم عبد الله (اسم مستعار) بقتل شخص آخر على خلفية شجار نشب بينهما.
ويقول شهود عيان إن عبد الله نازح رفقة عائلته جاء من حي الشجاعية شرقاً إلى غرب مدينة غزة وأقام في إحدى البنايات التجارية التي كان يقيم فيها عائلات نازحة أخرى من مناطق ثانية. وبينما كان المجني عليه يحاول اقادة الحطب للطهي عند الساعة السادسة صباحاً، نشب شجار بينه وبين القاتل على خلفية الضوضاء التي خلفتها عملية التحطيب بينما كان الأخير يرغب في مواصلة نومه.
ووفق رواية شهود العيان، فإن سالم هاجم الرجل بعدما رفض التوقف عن فعله، وبعدما تعاركا بالأيدي، قام بمهاجمته بالسكين وطعنه في أنحاء متفرقة من جسده أدت إلى وفاته بعد نحو ساعة من نقله إلى مشفى الشفاء غرب مدينة غزة. وعلى ضوء ذلك اضطرت عائلة القاتل لمغادرة البناية من الفور إلى مكان غير معلوم، فيما تحاول عائلة المجني عليه البحث عنها.
ومن الواضح أن الحرب أدت إلى انعكاسات سيكولوجية على سلوك الأفراد وعززت النزعة العصبية بين أفراد المجتمع المنهمكين في البحث عن لقمة عيشهم وسط حالة فقر مدقع دفعت بهم للعودة إلى الحياة البدائية بدء بالتحطيب وليس انتهاءً بتناول طعام الحيوانات. وهذا الواقع دفع بالبعض للسخرية منه بوصفه: "إذا كانت الحرب قد أجبرت الناس على تناول طعام الدواب فلا عتب على أفعال المنفلتين منهم".
وتزايد حجم العداء بين السكان ممتداً إلى داخل الأسرة الواحدة والتي أصبحت تعاني من أزمات متعددة نتيجة العجز الشديد في كافة مقومات الحياة، وبالتالي زاد الصراع بوجه خاص بين العائلات الممتدة التي تقيم في طبقات متعددة، على الاحتياجات الأساسية كالماء مثلاً أو مخزون الدقيق أو الوقود وغيرها من سلع أساسية.
وقاد موضوع ترشيد الاستهلاك على سبيل المثال إلى القطعية بين الأخوة داخل البيت الواحد، إذ يشير المواطن سليم عبد الجواد (45 عاماً)، إلى أن الإفراط المتزايد من أسرة شقيقه في المياه المشتركة بين الأسرتين داخل بناية واحدة، قاده إلى التشاجر معه.
وقال عبد الجواد: "نحن نعاني نقصا شديدا في المياه، ونضطر لشراء الجالون الواحد بقيمة أربعة شواكل، فيما أن أسرة شقيقي غير مبالية بهذا العبء ولا تكف عن الإسراف في الاستخدام، وعلى ضوء ذلك قمنا بفصل الخزانات المشتركة وقاد ذلك إلى القطعية فيما بيننا، ولست نادما على فعل ذلك".
هذا الجفاء الذي تسلل إلى العلاقات الأسرية، امتد أيضاً بين السيدة ميرفت سعيد (52 عاماً) وشقيقتها التي اضطرت بالفعل الحرب للنزوح عن مسكنها واللجوء إلى مسكن شقيقتها للإقامة فيه. وقالت سعيد، إنها كانت ترحب بإقامة شقيقتها معها في نفس المسكن مع ضرورة مراعاة تقاسم الأعباء الحياتية بشكل مشترك دون الاعتمادية في الإنفاق عليها وبخاصة أن زوجها يعاني محدودية في الدخل بفعل الحرب.
وأضافت "وجدت أن هناك لا مبالاة واعتمادية كاملة على زوجي في الإنفاق على الأسرتين، وهو بالكاد يستطيع تحمل نفقات أسرتنا المكونة من ثمانية أفراد، وليس بمقدوره أن يتحمل تغطية أعباء أسرة إضافية مكونة من ستة أفراد، لذا؛ اعتذرت من شقيقتي عن قدرتنا على احتمال ذلك، نشأ بيننا نزاع لفظي بيننا انتهى بمغادرتها للبيت هي وزوجها وأبناءها، والعلاقة بينما قد وصلت حد القطيعة".
هذا الواقع، يعكس بما لا يدع مجالاً للشك حجم التأثير النفسي للحرب على سكان قطاع غزة والذين يكابدون الأمرين في ظل إطالة أمد الحرب، وغياب أفق التسوية. على ضوء ذلك قالت الإخصائية النفسية إيناس الخطيب، إن الحرب فاقمت حالة الضغط النفسي لدى السكان، إلى الحد الذي ساعد في تنامي النزعة العدائية والإجرامية بينهم، كما أسهمت في تردي العلاقات المجتمعية والأسرية على حد سواء.
وأشارت الإخصائية الخطيب إلى أن العقد الاجتماعي يشهد انفراط بشكل ملموس بين السكان، وبخاصة في ظل حالة الضغط النفسي والتي أزكت العنف الداخلي، وساهمت بشكل أو بأخر في تفكيك النسيج الاجتماعي خصوصا أن كل إنسان أصبح يستأسد من أجل الحصول على اجتياحاته حتى لو كان ذلك على حساب أشخاص أخرين.
وأوضحت أنه من الضروري أن يعيد المجتمع حساباته في استعادة وحدة النسيج الاجتماعي وترابطه، انسجاماً مع القواعد الأخلاقية التي فرضتها البيئة المجتمعية وكذلك القواعد الدينية والتي عززت مفهوم الإيثار من خلال "حب لأخيك ما تحب لنفسك"، و"حفظ حق الجار"، وغيرها من مفاهيم أرسى الدين قواعدها في التعامل بين الناس.