قبل أكثر من ربع قرن التقيت المحلل النفسي مصطفى صفوان أثناء زياراته الخاطفة إلى القاهرة، واستوقفتني جملة له ما زالت ترنّ في رأسي "الإنسان لا يسكن اللغة فحسب بل هو معجون بها".
لاكان مؤلف "الكلام أو الموت"، والتلميذ النجيب في مدرسة فرويد، أسّس رؤيته باعتبار أن الإنسان كائن لغويّ، يحلم ويفكّر ويمارس انفعالاته وسلطته بواسطة اللغة. ولا تنقطع العلاقة بينهما إلا حين يتوقّف المخّ عن إنتاجها وتلقّيها، أي بالموت فقط. فماذا يعني اللغويون حين يتحدثون عن "اللغة الأم"؟

بحسب تصور صفوان، فإن اللغة تسيطر على وعي ـ ولا وعي ـ الإنسان، لأنه رضعها مع لبن الأم، وربما هي نفسها بمثابة أم يحتمي بها ويسكن في حضنها إلى الأبد، بينما أية لغة ثانية قد تُنسى. فمثلاً أينشتاين، قبل رحيله بدقائق، طلب من الممرضة ورقة وقلماً ثم تلفظ ببضع كلمات بالألمانية ومات، أي أنهى حياته بالعودة إلى لغته الأم، برغم أنه قضى آخر ربع قرن من حياته في أميركا يتكلم إنكليزية ركيكة بعض الشيء.
لا تكون اللغة الأم ركيكة أبداً، لذلك يعرّفها بعضهم بأنها اللغة التي يتقنها الشخص منذ طفولته المبكرة في مختلف سياقاتها الاجتماعية.
لكنّ التعريف لا يضع في الحسبان براعة مَن يولدون في بيئة أو أسرة ثنائية اللغة، كأن يكون الأب إنكليزياً والأم فرنسية، فيكتسب الطفل اللغتين بالطلاقة ذاتها. فأيهما تعتبر لغته "الأم"؟

ربما ينتفي مفهوم "اللغة الأم" عند من يكبرون بلغتين، أو يتطلب الأمر رصد الانفعالات العفوية والحسية، بأي لغة يعبر عنها كي نعتبرها "الأم" لأنه يلجأ إليها في هفواته ولاوعيه.
يصعب أن تكون اللغة الثانية لغة الحب والانفعالات إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، ويظل اكتسابها منقوصاً إلى حدٍ ما. إنها مثل صديقة لطيفة لن تحتلّ أبداً منزلة الأم.
وثمّة من يشير إلى مفهوم اللغة الأم كتعبير عن جماعة عرقية تربطها لغة ما كوعاء ثقافيّ خاص بذاتها وهويتها وتاريخها وإبداعاتها؛ ففي مجتمع متعدد العرقيات مثل الهند، ثمّة لغات أمّ متنوّعة، مما يتطلب اللجوء إلى لغة وسيطة بين الجميع هي الإنكليزية.
منازل ودرجات
إذا تأملنا "العربية" فهي ابنة للغة السامية الأم، وشقيقة لغات أخرى متفرعة منها مثل الأمهرية والفينيقية والآرامية.
ولكن فروقاً مهمة موجودةٌ، فثمّة شعوب ليست عربية تتحدّثها وتكتبها بطلاقة مثل "الأكراد"، أو تشكّل العربية أساساً متضمناً في لغات أخرى مثل التركية والفارسية والأردية. إنها اللسان الأم لمن يتحدّثون العربية، و"شبه أمّ" لشعوب وجماعات عرقية أخرى.
حتى الدول الناطقة بالعربية تفرّق بين اللغة المعيارية المحفوظة بقداسة القرآن الكريم، وضوابط النحو والبلاغة، ولغة شفاهية مستلهمة منها تخصّ كلّ دولة على حدة أو ما يسمّى "العامية"؛ فاللبنانية تختلف قليلاً عن السورية، عن المصرية، عن الخليجية، حتى أهل الخليج والعراق تفرّقهم "عاميات" مهما بدت متقاربة.
فمن الأفضل التفريق بين "الفصحى" كلغة معيارية راسخة لا تتطور بسهولة، و"العامية" كلغة شفاهية سريعة التطور، ومعبّرة عن عموم شعب معين، و"اللهجة" كلسان خاص لفئة معينة في داخل هذا المجتمع، على مستوى اللكنة والمفردات. فلهجة بدو سيناء ـ شرقي مصر ـ تختلف عن بدو مطروح ـ غربي مصر، مثلما تختلف لهجة الصعيد عن لهجة الفلاحين في الوجه البحري.
وقد ترتبط "اللهجة" بمهنة معيّنة تفرض قاموسًا خاصًا بها، وأساليب أدائية تخصّ جماعة المنتسبين إليها، مثل "لهجة الصيادين".
وسط تلك الفوارق المعقدة، أين تكمن اللغة الأم؟ قطعاً ليست هي اللغة المعيارية النائمة في بطون الكتب، إنما هي "العامية" التي يتلقّاها الطفل مبكراً جداً من أسرته، ويتحدّث بها قبل ذهابه إلى المدرسة، ويسكنها إلى الأبد، بينما تتطلب اللغة المعيارية جهداً طويلاً لاكتسابها. وهذا أحد أسباب تراجعها لأنها لم تعد اللغة الأم مثلما كانت لدى العرب في طور البداوة.
إجمالاً، نحن نتحدث "العربية" بوصفها لغتنا الأم الجميلة، لكن عشرات الأداءات والعاميات واللهجات انبثقت عنها استجابة لبيئة، وعصر، ومهن مختلفة. وهذا ينقلنا إلى تفريق مهم شرحه دي سوسير حين فصل بين مفهومي "الكلام" بوصفه "لغة معيارية" ذات قواعد مثالية تتفق عليها الجماعة البشرية، و"الخطاب" بوصفه تعبيراً عن أداءات خاصة. فكل مهنة، وكل بيئة، وكل رواية، وكل عصر، يختلق خطابًا مرنًا خاصًا به. فالرواية لا تكتب كي تطابق اللغة المعيارية ـ مهما حاولت الالتزام بذلك ـ وإنما كي تعبر عن خطابات شخوصها وبيئاتهم، ولا تلتزم بمستوى لغويّ معيّن إنما تعبّر عن تنوّع الأداءات اللغوية.
أياً كان المستوى الذي نشأ عليه الإنسان من مستويات اللغة الأم ولهجاتها، فالمؤكد أن الإنكليزية تلعب اليوم دور الأم البديلة لمعظم البشر.

عنف وسلطة
صحيح ما قاله صفوان عن الإنسان المعجون في اللغة، خازنة التراث وحاملة الثقافة، لكنه أيضاً يعاني مع اللغة التي رضعها مع لبن الأم.
ليس فقط لتعدّد مستوياتها ولهجاتها، ولكن لأنها قد لا تكون بالضرورة بديلاً سلمياً للحرب، حيث يحلّ الناس خلافاتهم بتبادل الكلام بدل تبادل اللكمات، بل ربما تكون هي نفسها مُنتجة للعنف ومحفّزة له، وفق ما بيّن ذلك لوسركل في كتابه "عنف اللغة"، ليس فقط في تعبيرها عن أحداث عنفيّة مثل "ذبحت السكين المرأة"، ولا في ألفاظ الشتائم والتحقير، وإنما في أنساق وخطابات تبدو مقبولة، لكنها تعكس عنفاً رمزياً أو لا مادياً، أي أن اللغة الأم ـ بهذا المعنى ـ قد تكون أمًا قاسية وجارحة تترك في وعينا وقلوبنا ندوبنا لا تُمحى.
غير بعيد عن ذلك كلام فيركلف في كتابه "اللغة والسلطة" عن دورها الاجتماعي في التفريق بين الطبقات وإدارة الصراع بين الناس. فاللغة الأم ليست محايدة ولا بريئة، ولا مجرد شاهدة على خشونة الواقع، بل هي نفسها أداة قامعة بشعارات دينية وقومية وألاعيب سيطرة وإذعان؛ فالتحايل اللغوي الاستهلاكي لإقناع شخص بشراء شيء لا يحتاج إليه هو عنف.
وكل طبقة تتحكم بالأدنى منها ليس بما تملكه فقط من مال وأدوات إنتاج، بل بخطاب لغويّ محكم. وبالطريقة ذاتها يمارس الرجل ذكوريته التي توفرها اللغة بسخاء لاستغلال وترويض المرأة. ولنا عبرة تاريخية في خطابات الطغاة التي تبدو أكثر توهجاً وشاعرية من خطابات شكسبير! فبينما يحوّل الطاغية واقع الناس المادي إلى نار وسجن كبير، يشيّد لهم جنة لغوية من شعارات ووعود.
يعني أن اللغة أحياناً عنيفة وقامعة، وأداة سحرية يتلاعب بها كل ديكتاتور حاذق أخفق في أن يكون شاعراً، بل كل إنسان يبحث عن سلطة ما. وهكذا تظل علاقتنا باللغة الأم قائمة على شتى الاحتمالات؛ فهي أداة الحب والكره والرقة والعنف والإبداع والتواصل والسلام والحرب والفهم والتعبير والكبت والقهر، وطريق الحقيقة وفخ التضليل، ووسيلة المعرفة وأداة حجبها، وسجن الوعي وحريته، وجنة الإنسان وناره، أو كما كانت أمي تقول دائمًا: "سعادة الناس كلام، وشقاء الناس كلام". ولا مفرّ من أن نسكن فيها، في كل أحوالنا.
صحيح ما قاله سقراط: "تكلم حتى أراك"، لكن بإمكاننا أن نعدّل مقولته إلى: "تكلّم حتى نرى ما فعلته بك لغتك الأم".