في الوقت الذي فتحت فيه الحرب باباً على الموت في غزة وشمالها، فتحت باب آخر على التلوث البيئي والصحي معاً. تتراص آلاف الأطنان من النفايات إلى جانب ركام المساكن المدمرة في الشوارع العامة والفرعية في محافظتي غزة والشمال، كوجه آخر من أوجه الحرب التي تدخل شهرها السادس دون وجود أفق لوقف إطلاق النار.
النفايات التي تعيق حركة السير في كثيرٍ من الطرقات، مصحوبةً بروائح نتنة نتيجة وجود عشرات الجيف، فضلاً عن المخلفات والمواد الصلبة، التي اختلطت بمياه الأمطار والصرف الصحي.
يتجاوز الحال حد الاحتمال بالنسبة لسكان المحافظتين والذين يقدر عددهم بنحو ثمانمائة ألف نسمة (هم من بقوا بعد نزوح المئات إلى جنوب القطاع)، لازالوا يكافحون الموت والجوع، ومؤخراً أصبحوا يواجهون البكتيريا التي تنتقل عبر الحشرات، والتي تتغذى على الجيف والجثث والنفايات أيضاً.
بموازاة أسوار محطة الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة (حوض تجميع مياه الأمطار)، التي هدمتها جرافات الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب، تتكاثف كتل النفايات بشكل يتجاوز حد الرؤيا.
وحدهم النازحون في مدرسة (عبد الرحمن بن عوف) المجاورة للمحطة، بإمكانهم أن يعاينوا من علوٍ حجم النفايات التي تدفق جزء منها إلى حوض المحطة وطفت النفايات البلاستيكية إلى سطح الماء، وغطت نصف الحوض تقريباً.
النازحون المجاورون للحوض، ليس بمقدورهم معاينة النفايات فحسب، بل ويشعرون بلدغة حشراتها على أجسادهم، كما يختنقون من انبعاثاتها واحتراقها، وبخاصة في ساعات الليل، وهو سلوك عشوائي عادة ما يلجأ إليه السكان من أجل التخلص منها.
الشاب أحمد عبد الرحمن (40 عاماً) تعرض للدغ في خده الأيمن من الذباب المنتشر في المحيط بشكل كثيف. لكن القصة لم تنتهِ إلى هنا، بل تضخم وجهه بفعل الورم وبدأ رحلة علاج مضنية على إثر توقف المشافي عن العمل.
وطبقاً لتشخيص الطبيب، فإن الشاب عبد الرحمن تعرض لفيروس بكتيري انتقل عبر الذباب وتسبب له بالأم شديدة في الوجه، وترك أثراً غائراً تراجعت حدته بعد الحصول على كورس علاجي استمر لأكثر من أسبوعين.
إزاء ذلك قال الطبيب العام محمد المدهون، إن أخطر ما في الأمر هو أن هذه الحشرات تغذت على الجيف ومن السهولة بمكان أن تنقل أمراض خطيرةً إلى السكان، ما لم يجرِ التخلص من النفايات بشكل آمن وعاجل.
وأوضح الطبيب المدهون أن الخطورة تزداد يوماً بعد يوم بفعل تكدس المزيد من النفايات في الشوارع والطرقات، إلى حد أصبحت فيه تحد من حركة مرور السكان وتنتشر بين المساكن، مبيناً أن هذه النفايات تسببت بالمزيد من الأذى لأصحاب الأمراض المزمنة، وبخاصة الأشخاص الذين يعانون ضيقاً في التنفس، فضلاً عن مرضى الحساسية الجلدية.
وأشار إلى أن طرق التلوث التي يتعرض لها الأشخاص من خلال النفايات تتم عبر عدة طرق، منها على سبيل المثال لا الحصر، الملامسة، مثل ملامسة النفايات لجلد الشخص أو أغشيته المخاطية، والاختراق، مثل وخز الشخص بإبر مستعملة، أو جرحه من قبل نفايات معدنية حادة، وكذلك البلع، والتنفس.
ولفت إلى أن المخاطر الصحية، تتجسد في التهاب الجلد، والتعرض لبكتيريا الكزاز، والهباء الحيوي،(كائنات دقيقة تتحرك في الهواء، وترتبط عادة مع النفايات التي تخزن في بيئة رطبة ودافئة، إذ تتكاثر هذه الكائنات الدقيقة بشكل كبير. وقد يؤدي استنشاقها بكميات كبيرة لفترة زمنية طويلة لإحداث حساسية).
إضافة إلى التعرض للجراثيم من البراز، وفيروسات قد تؤدي لالتهاب الأمعاء. وأيضا التعرض لفيروس التهاب الكبد "إيه" الذي ينتقل عبر تناول طعام ملوث ببراز شخص مصاب.
ومنذ اندلعت الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، خرجت بلديات شمال القطاع عن العمل بشكل تدريجي، ويرجع ذلك إلى الظروف الأمنية الصعبة التي تعانيها طواقم البلديات والاستهداف الإسرائيلي للأجسام المتحركة في تلك المنطقة الشرقية من مدينة غزة حيث مكب النفايات، فضلا عن نفاد الوقود اللازم لتحريك مركبات وشاحنات الجمع والترحيل، وتدمير عدد كبير منها، طبقاً لإفادة المتحدث باسم بلدية غزة حسني مهنا.
في واقع الأمر، تعتمد محافظتي غزة والشمال على مكتب نفايات جحر الديك، والذي تقدر مساحته 220 ألف متر مربع، يستقبل يومياً حوالي 1021 طناً.
ولوف افترضنا أن البلديات قد تعطلت بعد شهرين من الحرب، فذلك يعني أنه تراكم في الطرقات والأحياء السكنية أكثر من مليون طن من النفايات في المحافظتين خلال أربعة أشهر فقط (120 يوماً* 1021 طناً=122.520).
الخطر القائم بفعل النفايات لا يهدد صحة سكان غزة فقط، بل يمتد ليشمل البيئة أيضاً والتي تعاني من الأصل بفعل تراكم ركام المساكن ومخلفات الحرب من قذائف وبارود، ناهيك عن تلوث التربة ومياه الشرب.
يُنتج قطاع غزة الذي يتربع على مساحة 365 كم²، ويُقدّر عدد سكانه بحوالي 2.23 مليون نسمة، حوالي ألفي طن يوميًا من النفايات الصلبة، ما يعني (60 ألف طنّ) شهريًا وهو ما يُشير إلى وجود مُخلّفات صلبة سنوية تزيد عن (700 ألف طن) ناتجة عن مختلف الأنشطة المنزلية والتجارية والزراعية والصناعية والعمرانية والرواسب الناتجة عن محطات معالجة المياه العادمة.
هذه الكميات تزداد خطورتها نتيجة عدم القيام، بترحيل النفايات عموماً وتدوير ما يمكن تدويره منها للشهر السادس على التوالي من عمر الحرب.
يقول الخبير البيئي أحمد حلس، إن مكبات النفايات تعاني منذ وقت سابق (أي ما قبل الحرب) من تجاوز القدرة الاستيعابية، فما بالك الآن بعدما تراكمت أطنان النفايات بما فيها النفايات الصلبة دون القيام بأي نشاط من أنشطة التدوير نتيجة الحرب؟
يُشير حلس إلى أن المشكلات المتعلقة بإدارة النفايات الصلبة التي تشكّل نسبة (50%) من النفايات عامّةً وسبل التخلص الآمن منها، واحدة من أهم التحدّيات وأكثرها تعقيدًا في الواقع البيئي الغزي، وذلك في ظلّ ما تكشف عنه الإحصاءات من كميات هائلة من النفايات يتم إنتاجها يوميًا وسط افتقار حادّ لعمليات تطوير مكبات النفايات وتوفر الشروط الصحية والبيئية لحماية المواطنين من مخاطرها، فكيف بالحال الآن بعدما عطلت الحرب كافة محاولات التخلص من النفايات أو معالجتها، مبيناً أن الواقع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
وُقدّر حجم البلاستيك من النفايات الصلبة الأخرى التي ينتجها قطاع غزة يوميًا، بـ 1.595 طنًا/اليوم، وهو ما يُشكّل نسبة (17%) من مجموع النفايات الصلبة الأخرى، فيما تُمثل المعادن والزجاج والرمال نسبة (22%)، والورق والكرتون (11%)، فيما تُشكِل النفايات العضوية القابلة للتخمر كبقايا الطعام ومخلّفات الحرائق ما نسبته (50%).
يتقاطع قول حلس مع ما أشار إليه تقرير سابق صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، والذي يقول بشكل واضح إن مخاطر النفايات الصلبة تتفاقم في القطاع بسبب سوء إدارتها نتيجة لمكبات النفايات أو محطات ترحيلها أو نقاط تجمعها، سواء كانت مخاطر بيئية أو صحية، ومنها خطر اشتعالها وحدوث حرائق، وتلوث الهواء في أماكن تواجدها، ومخاطرها على التربة والزراعة. إضافة إلى التسبب بأزمات صحية للسكان، والعاملين في المهنة على حدٍ سواء.
يتناقض هذا الحال برمّته، مع تأكيد خبراء بيئيين بضرورة أن تخضع عمليات إدارة النفايات في القطاع لما نصّت عليه المواثيق الدولية لحماية البيئة والصحة العامة. وتحديدًا المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تشير إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، ووقاية السكان من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها.
ويرجع تقرير "الميزان" تدهور واقع إدارة النفايات الصلبة في غزة، وما ينتج عنه من آثار بيئية وصحية لمكبات النفايات في القطاع، إلى ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية التي تتمثل في إعاقة إنشاء مكبات في المناطق الحدودية البعيدة عن المناطق السكنية، وكذلك إعاقة عمليات تطوير المكبات الموجودة، إذ حالت دون توسعة مكب النفايات القائم في جحر الديك.
غير أن الواقع الآن يشي بمزيد من المخاطر المحدقة بالسكان والبيئة على حد سواء، بفعل تعطيل كافة محاولات التخلص من النفايات.
طبقا للمعايير البيئية المحلية الخاصة بعملية تنظيم مكبات النفايات ونقاط ترحيلها؛ فيجب أن تبعد مكبات النفايات مسافة لا تقل عن 500 متر عن التجمعات السكنية، وأن تكون مساحتها كافية لاستيعاب النفايات ضمن خطة زمنية لوقت معلوم. كما تنص المعايير على ضرورة إحاطة المكبات بسياج أو أية وسائل للحد من تأثير الرياح والحيوانات، وألا تقع المكبات ضمن مناطق حساسية لتزويد المياه الجوفية أو مناطق حماية مصادر المياه والأمطار أو المصنفة كمحميات طبيعية، أو مناطق ذات أهمية تاريخية، أو دينية، أو ثقافية.
في واقع الأمر تبدو المعايير الآنفة مجرد حبر على ورق، وبخاصة إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن النفايات أصبحت تتكدس الآن بين مساكن المواطنين وفي الأحياء والطرقات العامة.
أمام هذه المعطيات، أكّد الباحث في وحدة الدراسات بمركز الميزان لحقوق الإنسان، حسين حمّاد، على ضرورة تحميل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية بصفته قوة احتلال للقطاع.
وقال الباحث حماد: "ادعو الهيئة الوطنية العليا للمحكمة الجنائية الدولية لإعداد ملفات خاصّة حول جرائم الاحتلال بحقّ البيئة والمياه ورفعها للمحكمة ضمن الملفات الفلسطينية"، مشيرًا إلى ضرورة ممارسة الضغط بكافة أشكاله لمناصرة الانتهاكات التي يمارسها الاحتلال تجاه المشكلات البيئية التي يعاني منها سكان قطاع غزة.