بإمكان الأشخاص البدنيين الذين انخرطوا في برامج التخسيس ولم يمنحوا الفرصة في تخفيف أوزانهم، أن يراقبوا ماذا حل بفئة كبيرة من سكان قطاع غزة، فالغالبية منها خسروا الكثير من أوزانهم بحمية قسرية ورياضة شاقة تبدأ من حمل جالونات المياه، إلى جمع الحطب وليس انتهاء بالبحث عن الطعام والشراب سيراً على الأقدام.
ولعل صورتين لشخص واحد قبل وبعد اندلاع الحرب كفيلتان أن تخبراك عن حجم النحافة التي تسبب بها سياسة التجوع والحصار المطبقين على السكان المدنيين منذ أكثر من 13 شهراً من عمر الحرب.
لذا فإن من الناس من أطلق وصفاً على هذه الحرب بأنه "حرب التجويع" وآخرون قالوا إنها حرب على لقمة العيش في ظل فقدان مصادر الدخل والعمل، وفريق ثالث قال إن هذه الحرب خرجت عن كل الأوصاف ولم يسبقها مثيل في حرمان السكان من الطعام والشراب.
وتعود النحافة التي يعانيها الغالبية من السكان، وفق مختصون إلى سوء التغذية الناتج عن منح الاحتلال إدخال المساعدات وفي مقدمتها الخضار واللحوم والتحكم بالحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للأفراد.
حرمان من الكلسيوم
ولم تزل جراح الفتاة وداد عبد الله (*) الغائرة عصية على الالتئام في ظل نقص الفيتامينات والحرمان من الكلسيوم والغذاء المناسب. وقالت عبد الله التي تبلغ من العمر 25 عاماً، إنها فقدت أكثر من 10 كيلوجراما من أصل 60 كيلوجرامًا من وزنها، بسبب الإصابة والحرمان من الأطعمة الصحية والأغذية والخضار والفواكه، مؤكدة اعتمادها في الغذاء على القليل من البقوليات والمعلبات.
الفتاة عبد الله التي كانت تتباهى برشاقتها أمام المرآة، أصحبت تخشى النظر إلى وجهها بسبب النحافة، مشيرة إلى أنها تعاني أذى نفسي نتيجة فقدان وزنها، والتي قالت إنه مرشح للزيادة في ظل تراجع سلطات الاحتلال عن إدخال المساعدات الدقيق إلى قطاع غزة في الأيام الأخيرة.
ومن الواضح أن النساء من أكثر الفئات معاناة مع الجوع، حيث تظهر تقديرات هيئة الأمم المتحدة للمرأة إن ما لا يقل عن 557 ألف امرأة في غزة تواجه انعداما حادا للأمن الغذائي وإن الوضع مقلق بشكل خاص بالنسبة للأمهات والنساء البالغات، اللاتي غالبا ما يعطين الأولوية لإطعام الآخرين ويواجهن صعوبات أكثر من الرجال في الحصول على الطعام.
وذكرت الهيئة الأممية أن ذلك الوضع يجبر الكثير من النساء على تخطي وجبات أو تقليل ما يتناولنه لضمان إطعام أبنائهن. وقالت إن الأعباء الملقاة على عاتق النساء أثناء الصراع تزداد ويقيد وصولهن إلى الخدمات وتعرض صحتهن وأمنهن الغذائي للخطر، كما تزداد مخاطر تعرضهن لكل أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي.
بموازاة ذلك، اشتكى مراد سليم (42 عاماً)، من التراجع المطرد الذي يعنيه في وزنه على الرغم من حفاظه على تناول ثلاث وجبات يومياً. وقال أواظب يوميا على تناول وجبات الطعام والتي قوامها الخبز والزعتر في مواعيد محددة على الرغم من تعقيدات الحياة اليومية لكني لم أفلح في استعادة وزني".
وفقد سليم أكثر من 15 كيلوجراما من وزنه الذي كان يبلغ قبل اندلاع الحرب 90 كيلوجرام وقد كان يتناسب مع طوله حيث يتجاوز 180 سم. وقال في أحلك الظروف لم أكن أتوقع أن أصل هذا المستوى من خسارة الوزن، رغم أني شخص رياضي ومازلت حريصاً على ممارسة رياضتي المفضلة وهي رفع الأثقال، رغم الحرب والنزوح.
نتيجة حتمية
في الأثناء قالت أخصائية التغذية أماني عبد الرحمن، أن السكان في قطاع غزة يفتقدون إلى الأطعمة الغنية بالبروتين والدهون والفيتامينات، مما يجعل خسارة الوزن أمرا طبيعيا ووارداً".
وأضافت عبد الرحمن "غالبية الناس يعيشون أيامهم على كسرات الخبز أو قطع من البسكويت على مدار يوم كامل، خاصة وأن السوق يفتقد إلى كافة أشكال الأطعمة والأغذية والخضار والقليل المتوفر منها يصعب على الغالبية شرائه بسبب ارتفاع ثمنه".
وأوضحت أن الحرب تسببت في فقدان الأمن الغذائي وانتشار سوء التغذية وغابت اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك الطازجة عن الأسواق العامة، "وبالتالي فإن المشكلة لا تتعلق بالشبع بقدر من أن الأفراد لا يجدون ما يأكلونه سوى الخبز، حيث لا يوجد لا أكل سليم ولا متنوع، في ظل أن الجسم بحاجة إلى طعام متكامل يحتوي على المعادن والبروتينات والفيتامينات، وهذا غير متوفر حاليا" كما قالت.
ولفتت إلى أن خسارة الأوزان بشكل قسري ألقت بظلال سلبية على الصحة النفسية للنساء بوجه خاص، قائلة: "تؤثر خسارة الوزن على الهيئة العامة للجسم بما في ذلك نظارة البشرة وصحة الشعر والعقل، كما أن النزوح والتهجير والإقامة في بيئات تفتقد إلى كافة مقومات الحياة الأدمية، جميعها ظروف تخلف تأثيرات على الصحة الجسدية والنفسية".
ويرغم سكان شمال قطاع غزة، على وجه الخصوص، للبقاء على قيد الحياة بمقدار 245 سعرة حرارية فقط من الغذاء للفرد الواحد في اليوم-أي على أقل من علبة فول- ذلك وفقا لتقديرات منظمة أوكسفام.
أقل من الحد الأدنى
وتمثل كمية الطعام الضئيلة هذه أقل من 12% من الاستهلاك اليومي الموصى به البالغ 2100 سعرة حرارية للشخص الواحد محسوبا باستخدام البيانات السكانية مع مراعات الاختلافات حسب العمر والنوع الاجتماعي.
وبحسب أوكسفام فإن الحكومة الإسرائيلية تعرف منذ ما يقرب من عقدين من الزمن بالضبط عدد السعرات الحرارية اليومية اللازمة لمنع سوء التغذية في قطاع غزة، وتحسب ذلك وفقا للعمر والنوع الاجتماعي في وثيقة "استهلاك الغذاء في قطاع غزة- الخطوط الحمراء".
وتقول المنظمة الدولية إنه لم يقتصر الأمر على استخدام حساب أقصى يبلغ 2.279 سعرة حرارية للشخص الواحد، بل أخذ في الاعتبار أيضا الإنتاج الغذائي المحلي في قطاع غزة والذي قضي عليه تقريبا الجيش خلال عملياته البرية داخل القطاع.
لم يعد بالإمكان أن تحمل تعابير وجوه السكان أي دلالة على السلامة من هذه الحرب التي أنهكت أجسادهم، حتى نهش الجوع أمعائهم.
لم يعد التلميح يجدي نفعا مع الحالة القائمة، وحتى التصريح بالجوع الذي يمر به السكان لم يخلق سبيلا للشبع، سواء عبر دفع المجتمع الدولي نحو تعززي دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، أو ثني اللصوص وقطاع الطرق عن مواصلة أعمال السطو على قوافل المساعدات.
وكتبت الصحفية وعد أبو زاهر، عبر صفحتها على فيسبوك "بدي حاجة تمنع الجوع بالليل ومحدش يقولي "الصبر" لأني أنا والصبر قاعدين جعانين".
ويشكل هذا الطلب انعكاسا حقيقياً لواقع الجوع الذي يمر به الغالبية من السكان لاسيما في جنوب القطاع، والذين أصبح الكثير منهم مؤخراً ينامون على معدة فارغة.